لا يعقل أن تكون المملكة العثمانية على هذه السعة والاعتدال وفيها من الأنهار والحراج والمعادن ما فيها ومن ذكاء سكانها وزكاء تربيتها العجب العجاب وتصبح في هذه الدركة من الفقر والانحطاط.
لا يعقل أن تكون بلاد هذه السلطنة التي ضمت إلى صدرها كثيراً من ممالك الأقدمين كالفينيقيين والغسانيين واللخميين والحثيين والحميريين والصفويين والنبطيين والبابليين والآشوريين والمقدونيين واليونانيين والفراعنة وتكون مساحة ولاياتها الثلاثين خمسة أضعاف ألمانيا ولا يكون فيها من السكان سوى نحو ثلاثين مليوناً على حين يبلغ سكان ألمانيا زهاء خمس وستين.
لا يعقل أن بلاداً فيها من الأنهار العظيمة مثل سيحان وجيحان ودجلة والفرات وقزل ايرمق واردار وغيرها من الأنهار أن تمحل ولا تخصب مع أن الخالق خصها بتربة ممرعة فيعطي مد الحنطة في بعض جهاتها مئة مد ثم تقرأ الفقر المدقع في وجوه أهلها.
لا يعقل أن بلاداً لها عشرات من الموانئ على شواطئ البحر الأبيض والبحر الأسود والبحر الأحمر وبحر الادرياتيك والمحيط الهندي وهي متاخمة لممالك البلقان وأوروبا من جهة ولبلاد السودان وصحراء إفريقية وشماليها من جهة وروسيا وإيران من أخرى ثم لا تستطيع أن تبعث بغلاتها إلى البلاد الخارجية لتتناول منها ثمنها نقداً لسد العجز المحسوس بين وارداتها وصادراتها.
ولكن من نظر في الأمر نظر متدبر وعرف أن حكومة الاستبداد تحرق الأخضر واليابس وتخرب العامر والغامر وأن الجهل مبيد الأمم برمتها دع عنك عمرانها لا يستغرب ما قدر لهذه السلطنة بل يعجب كيف أبقى الاستبداد فيها عقولاً تفكر وأيدي لتعمل ونفوساً تشعر بالتأخر.
كان همّ الحكومة المطلقة في هذه السلطنة أن تحتال لسلب النعمة الباقية من يد الأهين فكانت تشاركهم في أموالهم على غير رضاهم وهي لا تحميهم في أنفسهم وأموالهم ولا في مرافقهم وصحتهم وكيف تهتم لإسعادهم وهم عبيدها إذا طلبوا أن تخفف عنهم العذاب قاتلتهم وأن أرادوها أن تحاسنهم خاشنتهم، وكيف بطلب من الجاهل ما يطلب من العالم وهل ينفق امرؤ إلا مما عنده وهل الحكومات إلا أفراد مجتمعون.