هبطت مصر وعهدي بها ليس ببعيد غبت عنها أربعة عشر شهراً وكنت صرفت فيها أربع سنين أيام الحكم الاستبدادي في المملكة العثمانية فلم أرَ اليوم وأنا عابر سبيل أن أمكث فيها أقل من أربعة عشر يوماً قضيتها في مشاهدة من خلفتهم فيها من الأصدقاء الكثيرين. والقاهرة من البلاد العربية كباريز من البلاد الإفرنجية حوت ما في العواصم من ضروب الرقي والانحطاط مما تنفقه على غيرها طوعاً أو كرهاً ويأتي الناس من القاصية فيأخذونه عنها ويهتمون بتقليده وتأييده.
إن من ينظر إلى مصر نظراً سطحياً يأسف لها كثيراً ويعدها كنزاً ضائعاً ودماً ضيعه أهله. ومن يمعن النظر في مواردها ومصادرها ويدرس مساعيها ومقاصدها ويقيس النتائج بالمقدمات والماضي بما هو آت يدرك أن المستقبل المخبوء لمصر في حياتها الاجتماعية والسياسية لا يقل عما أحرزته في حاضرها من المنافع المادية والأدبية إذا ظلت عناية أهلها متوفرة على التعليم والتربية وهم يتفننون سنة عن أخرى في تلقف ما ينفعهم من أنواع المعارف لقيام بناء مجدهم الجديد على أحسن نظام.
ليس في أقطار الشرق ولا في أقطار الغرب بلد عرف تاريخه كما عرف تاريخ مصر ولا بلد مثله أبقى على آثاره الخالدة واحتفظ بتراثه القديم فنفع العلم والعالم بما ادخره.
فقد قال لنا التاريخ أن عهد بعض سلائل فراعنتها كان عهد ارتقاءٍ ومدنية وأن مدنيتهم لا تقل من وجوه عن المدنية الرومانية واليونانية والفارسية فكانت دولة فاتحة غازية مستعمرة كما كانت دولة فاضلة متحضرة وأنه جاءَ زمن طويل على مدينة الإسكندرية أيام الروم كانت تفيض العلم النافع على العالم أجمع بمدرستها كما كانت تفيض العلم مدرسة بغداد ومدرسة قرطبة أيام الخلفاء وكما تفيض كليات أوربا وأميركا على آسيا وافريقية اليوم.
أتى على مصر دور انحطاط بعد دولة الفاطميين اشتغلت فيه بنفسها وكان حظها من المعارف حظ سائر بلاد الشام وإن كانت لها الميزة أبداً في هذا الباب على الأقطار المجاورة فقد كانت على عهد الأيوبيين والجراكسة والمماليك على انحطاطها مورداً تستقي منه البلاد الأخرى وكانت العلوم الإسلامية والأدبية خاصة مما يحمل من أزهرها إلى