ألمعنا مرات في الفصول السالفة إلى تفنن الباريزيين في الأمور الذوقية والطباعة من جملة فنون الذوق وإن كانت تتوقف على علم وفضل تجربة. وأجور الطبع هنا غالية لغلاء الأسعار وأجور الدور والمنازل فالعامل الجيد لا يرزق أقل من نصف ليرة وأقل عامل لا يرزق أقل من أربعة فرنكات في يومه. ولذلك ترى بعض أرباب المجلات وغيرهم من المؤلفين والطابعين يطبعون مجلاتهم وكتبهم في مطابع الولايات لرخص أجورها وجودة طبعها الذي لا يختلف عن المطابع الباريزية في شيء.
ومن جملة المطابع العظمى التي زرتها مطبعة الأمة أي مطبعة الحكومة التي أسسها لويز الثالث عشر سنة ١٦٤٠ ثم نقلت إلى قصر الكردينال روهان من أجمل القصور الباريزية القديمة المعروف ببيت أساقفة ستراسبورغ. وقد أنشئت لها بناية هائلة في شارع الكنفانسيون لضيق هذا المكان على سعته البالغ سطحها عشرة آلاف متر مربع.
تدخل من الباب فترى في فناءِ الدار تمثال غوتنبرغ مخترع الطباعة والمتفضل على الإنسانية معمولاً من البرونز فلا تتمالك من الدعاء له وذكر بيض أياديه على العالم ثم يأخذك الدليل في الوقت الذي تعينه لك من قبل إدارة المطبعة ويطوف بك قاعات مسابك الحروف في ثمانين لغة واللغة العربية في مقدمة لغات الشرق رأيناهم في بعض الغرف كتبوا بيتاً من الشعر العربي ليمرن الأستاذ العملة على تعلم هذه اللغة فيحسنوا تنضيد حروفها بفهم.
ثم طاف بنا الدليل قاعات التنضيد والتجليد والطبع والطي فرأينا كل شيء قد جعل في مكانه اللائق به والعملة والعاملات يعملون في مكان واحد كتفاً إلى كتف وقد يتولى الأعمال الشاقة الرجال من دون النساء. وعدد العاملين والعاملات في المطبعة يناهز الألف والخمسمائة وفيها ما يربو على ستين آلة طابعة على آخر طرز منها خمس آلات من المعروف بالروتاتيف وعلى مثلها تطبع جميع الجرائد الكبرى في اغرب اليوم. وتنفق الحكومة على هذه المطبعة نحو تسعة ملايين فرنك مسانهة وفيها تطبع الجريدة الرسمية ومطبوعات الحكومة والنظارات ومناشيرها وفهارسها وأوامرها فالاستعداد فيها تام لكل ما