من جملة مخطوطات دار الكتب الظاهرية بدمشق كتابان عظيمان تعددت مجلداتهما فدلا على اتساع نطاق التأليف في الإسلام أيام كان علماؤُه منصرفين إلى العلم والعمل يصرفون أثمن أوقاتهم في خدمة الأمة وهما كتاب الكواكب الدراري في تبويب مسند الإمام أحمد على أبواب البخاري لجامعه الإمام أبي الحسن علي بن عروة الحنبلي من أهل القرن التاسع وكتاب تاريخ دمشق الكبير لواضعه الحافظ أبي القاسم ابن عساكر من أهل القرن السادس.
هذان السفران الجليلان آيتان ناطقتان على طول نفس أجدادنا وشدة وثاقنا وجهالتنا فقد وجد من الأول مجلدات كثيرة ضخمة لا تقل عن ثمانين مجلداً متفرقة ومما وجد منها المجلد الثاني والعشرون بعد المئة بحيث لايظن أن الكتاب بلغ أقل من مئة وخمسين مجلداً في التفسير والحديث والأصول والفقه الحنبلي وتراجم الحنابلة ومباحث في الفلسفة والكلام والتاريخ والأدب فهو دائرة معارف إسلامية حقيقية ضمت بين جوانحها أشهر كتابات علماء الحنابلة وكبار مجتهدي الأمة مثل شيخ الإسلام ابن تيمية وابن قيم الجوزية وابن رجب وغيرهم من الأعلام.
وأما تاريخ دمشق فمنه الآن نسختان نسخة في عشرين مجلداً ونسخة وقعت في عشرة مجلدات ضخمة وهي تامة وكان كتب في ثمانين مجلداً. ولقد جرى ذكره بين حافظ مصر في عهده زكي الدين المنذري وطال الحديث في أمره واستعظامه فقال حافظ مصر: ما أظن هذا الرجل إلا عزم على وضع هذا التاريخ من يوم عقل على نفسه وشرع في الجمع من ذلك الوقت وإلا فالعمر يقصر عن أن يجمع فيه الإنسان مثل هذا الكتاب بعد الاشتغال والتنبه. قال ابن خلكان: ولقد قال الحق ومن وقف عليه عرف حقيقة هذا القول ومتى يتسع للإنسان الوقت حتى يضيع مثله وهذا الذي ظهر هو الذي اختاره وما صح له هذا إلا بعد مسودات ما يكاد ينضبط حصرها وله غيره تواليف حسنة.
وبعد فإن الخالق تعالى وضع في أفراد من كل أمة خاصيات وملكات قلما يشاركهم فيها كثيرون وآتاهم هبات يستخدمونها في نفع البشر ونفوساً لا تعرف الملل لدرك مقاصدهم