الخطابة كالكتابة وقرض الشِّعر ملكةٌ فطريّة وملكةٌ كسبيّة إذا صاحبت فيها الكسبيّة ألفطريّة جاء من الخطيب كلُّ قولٍ عجيب، وقد كان دمرستينوس وهو أخطَب خطيبٍ عند اليونان. كما أنّ شيشرون أخطب خطيبٍ عند الرومان - خطب في الجمهور أول مرةٍ ولم يحسن الإلقاء لأنه كان ألثغ مثل واصل بن عطاء شيخ المعتزلة وكان ضعيف الصّوت فحاول إصلاح ذلك وتمكّن منه بوضع حصاةٍ في فمه وإنشاد آياتٍ وهو يركض على شاطئ البحر ويرتقي الرّوابي والآكام
قال الجاحظ: أخبرني محمد بن عباد بن كاسب كاتب زهير مولى بجيلة وكان شاعراً راويةً وطلاّبة علمٍ علامة قال: سمعت أبا داوودٍ ابن جرير يقول وقد جرى شيءٌ منذكر الخطب وتحبير الكلام واقتضابه وصعوبة ذلك المقام وأهواله فقال: تلخيص المعاني رفق، والاستعانة بالغريب عجز، والتشادق من غير أهل البادية بغض، والنظر في عيون الناس غيٌّّ، ومس اللحية هلك، والخروج مما بني عليه أول الكلام إسهاب، وقال: وسمعته يقول: رأس الخطابة الطبع، وعمها الدربة، وجناحاها رواية الكلام، وحليها الإعراب، وبهاؤها تخيّر اللفظ، والمحبة مقرونةٌ بقلّة الإستكراه
وذكر محمد بن علي بن عبد الله بن عبّاس بلاغة بعض أهله فقال: إني لأكره أن يكون مقدار لسانه فاضلاً عن مقدار علمه كما أكره أن يكون مقار علمه فاضلاً على مقدار عقله، قال أبو عثمان الجاحظ: هذا الكلام شريفٌ نافعٌ، فاحفظوا لفظه وتدبّروا معناه، ثمّ اعلموا أنّ المعنى الحقير ألفاسد، والدنيء السّاقط، يعشش في القلوب، ثم يبيض ثم يفرخ فإذا ضرب يجرانه، ومكن بعروقه، استفحل ألفساد وبزل، وتمكّن الجهل وفرخ، فعند ذلك يقو داؤه، ويمتنع دواؤه، ولأنّ اللفظ الهجين لرديء، والمستكره الغبي، أعلق باللسان، وآنف المسمع، وأشدّ التحاماً بالقلب، من الللفظ النّبيه الشّريف، والمعنى الرفيع الكريم، ولو جالست الجهّال والنوكى، والسخفاء والحمقى، شهراً فقط لم تنقذ من أوضار كلامهم، وخيال معانيهم، بمجالسة أهل البيان والعقل دهراً، ولأنّ ألفساد أسرع إلى النّاس، وأشدّ التحاماً بالطبع واللسان، بالتّعلّم والتّكلّم، وبطول الاختلاف إلى العلماء ومدارسة كتب الحكمة، يجرّد لفظه،