للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[صناعة النظم والإنشاء]

كان الوليد أبو عبادة البحتري معاصراً لحبيب بن أوس المعروف بأبي تمام وهما من أعيان أمراء الكلام وكلاهما طائي غير أن البحتري ولد بعد ذلك بأربعة عشر عاماً فما ترعرع وبدت فيه علائم النبوغ حتى كان أبو تمام في أوج مجده وبحبوحة اشتهاره فلصق به وتخرج عليه حتى إذا نبل شعره وسار ذكره قال أبو تمام إن شعر هذا الغلام قد نعى إليَّ نفسي فما اجتمع في طي شاعران مشهوران إلا مات أكبرهما وقد صدقت نبوءته هذه فإن أبا تمام لم يعش بعد قوله هذا أكثر من عام واحد ولقد مات عبطةً وهو دون الأربعين ولو عمر حتى اكتهل كالمتنبي أو شاخ كالبحتري لأتى بالآيات المعجزات ولأطبق الناس على كونه أمير الشعراء قديماً وحديثاً.

وكان البحتري قد سأل يوماً أبا تمام أن يبين له الوجهة التي ينتحيها في نظمه والوتيرة التي يجري عليها توصلاً إلى الإجادة والإبداع فقال له:

يا أبا عبادة تخير الأوقات وأنت قليل الهموم صفر من الغموم واعلم أن العادة جرت في الأوقات أن يقصد الإنسان لتأليف شيءٍ أو حفظه وقت السحر إذ تكون النفس قد أخذت حظها من الراحة وقسطها من النوم. وإن أردت التشبيب فاجعل اللفظ رقيقاً والمعنى رشيقاً وأكثر فيه من بيان الصبابة وتوجع الكآبة وتوجع الأشواق ولوعة الفراق فإذا أخذت في مديح سيد ذي إياد فأشهر مناقبه وأظهر مناسبه وأبن معالمه وشرف مقامه ونضد المعاني واحذر المجهول منها وإياك أن تشين شعرك بالألفاظ الرديئة. وكن كأنك خياط يقطع الثياب على مقادير الأجساد. وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك ولا تعمل شعرك إلا وأنت فارغ القلب واجعل شهوتك لقوك الشعر الذريعة إلى حسن نظمه فإن الشهوة نعم المعين وجملة الحال أن تقيس شعرك وتعتبره بما سلف من شعر الماضين فما استحسن العلماء فاقصده وما نبذوه فاجتنبه ترشده إن شاء الله.

قال البحتري فأعلمت نفسي فيما قال فجاد شعري وطار ذكري ووقفت إلى ما أروم.

أما الحاتمي فقد اختار الليل للنظم وحوك الكلام ذاهباً مذهب (جورج ساند) الكاتبة الفرنساوية التي كانت تبدأ بكتابتها عند منتصف الليل وتنتهي منها الساعة السادسة ثم تنام إلى الحادية عشرة على ما وصفه المترجمون لها. وحجة الحاتمي في ذلك أن في الليل تجم الأذهان وتنقطع الأشغال ويصح النظر وتؤلف الحكمة ويتسع مجال الفكر وتنبعث