لم يبق مجال للشك بأن بلاد الشام ناهضة نحو الترقي ثابتة وعزم أكيد فقد بدأت تباشير النهضة من بيروت بُعيد حوادث سنة الستين التي انتهت بمنهج الاستقلال الإداري لجبل لبنان وضعف أمرها في أواخر مدة السلطان المخلوع عدو المعارف اللدود ثم سرت نفحة من تلك الروح الطيبة بعد إعلان الحرية إذ أيقن بعض الأهالي أن العهد عهد كفاءات لا عهد شفاعات والدور دور نشاط وإقدام لا دور جمود وإحجام وأن من لا يعهد للدهر عدته يهلكه الدهر ولا من يرحمه.
ولقد نال من نعمة الدستور في السلطنة كل بلد بقدر استعداد أهله وكان من توفرت لهم ذرائع التعلم أكثر ركوضاً إلى ورود مناهل العلم وليس في سورية مدينة استقام لها أمر التعليم كثغر بيروت الذي حمل إليه الإفرنج ولا يزالون يحملون علمهم وأموالهم ليربوا بها ناشئة الشرق ويخرجوهم عَلَى المنازع الغربية مازجين إلى تلقين المدنية تلقين النصرانية وقد وفقوا إلى ما قصدوا إليه منذ نحو نصف قرن.
ولكن أهل البلاد انتبهوا إلى ما يلحقهم من الغضاضة إذ لوا عيالاً عَلَى ما أسسه لهم الإفرنج من المدارس فبدؤوا بتأسيس مدارس طائفية أهلية سبق إليها المسيحيون أولاً في بيروت وبعض المدن السورية ثم حذا حذوهم المسلمون في بيروت فدمشق فغيرهما ولكن البيروتيين عَلَى قلة عددهم وغناهم بالنسبة للدمشقيين فاقوا جيرانهم هؤلاء لأن اعتمادهم كان عَلَى أنفسهم واعتبروا حق الاعتبار بما حمله إليهم المرسلون من الأميركان والألمان والروس والفرنسيس وقدروا المبادئ والخواتيم فرأوا أنه لا ينقذهم من سوء المصير إلا العمل لتثقيف عقول أبناءهم عَلَى الطرق الوطنية الحديثة.
أما الدمشقيون فقد استمروا وظائف الحكومة فكانوا ولم يزالوا إذا تعلموا شيئاً لا يقدرون له من الفوائد إلا بقدر ما يقربهم زلفى من الحكام ويوليهم التصدر في دست الرئاسة ولذا يرجح أن يكون مستقبل البيروتيين أكثر ثماراً جنيه في مستقبل جيرانهم اللهم إلا إذا اعتمد الدمشقيون عَلَى أنفسهم وحسبوا التوظف ثانوياً وقللوا من توقيره في نفوسهم.
هذا مثال ضربناه أما سائر مدن سورية كالقدس وحيفا ويافا وصيدا وعكا وطرابلس واللاذقية وحمص وحماة وحلب واسكندرونة وزحلة وغيرها فقد هبت للتعلم بقدر ما تساعدها أسبابها ومن كان أقرب للاختلاط بالغربيين كانت نهضته أقوى وأرقى كما هو