أخذ التقدم يرتقي في مصر بعد أن كانت مثل جميع البلاد الإسلامية لقلة العلم والزهد في معاناة الحياة التجارية تقول أن الحياة الدينية والمدنية شيءٌ واحد وأن في القرآن والسنة أحكام الحياتين وفي مضامينهما جميع القوانين. أما الأديان السماوية الأخرى فقد رأت من الضرورة الفصل بين السلطة الزمنية والروحية ولم يتسن للإسلام أن يشذ عن هذا القانون. ومن تأمل ما جرى في مصر منذ خمسين سنة فقط وقاس ما نتج من دخول التمدن إلى هذا القطر خلال هذه المدة يدرك بأن النشوء يكون على أتمه بعد قليل وأن هذا التغيير يجري تحت طي السكون جارياً في مجراه الطبيعي من دون إكراه ولا إعنات. ومع هذا ظنَّ كثير من المفكرين بأن البلاد الإسلامية تبقى بعيدة عن التمدن. حملهم على هذا الظن ما رأوه من شدة تحمس المسلمين لدينهم وخضوعهم لما أمر به القرآن خضوعاً أعمى.
وحجة أهل الإسلام في هذا الباب أن التمدن الإسلامي لما كان منشراً أكثر من غيره كانت العقائد سالمة لم تمس وراسخة لم تزعزع إلا أنه يقال لهم أن علماء العرب في تلك العصور لم يكونوا يدرسون سوى علوم مقررة قام بها تمدن الشعوب الأخرى ولم يقتربوا من الكتب التي حوت علوماً غيرها أو من المصنفات الأدبية والصناعية التي تفتح على العقل باباً جديداً.
على أن التمدن العربي لم تعهد له طفولية إذ ولد كاملاً وبلغ رشده في قرنين فكان من الإسلام كما كان من سائر الأديان أن عدل من امتداد تأثيرات الذكاء وتقهقره في آن واحد وذلك مما لا يتأتى أن يجدد اليوم عهده. لأن تحاكك البلاد الإسلامية بالعنصر الأوربي وانتشار العلم وضروريات الحياة الجديدة ستؤدي ولا جرم إلى تحرير العقول من قيودها وتنتهي بفصل السلطة الدينية عن السلطة الزمنية لا محالة على نحو ما نرى من سرعة النشوء الذي بدأ الآن يظهر في مصر آخذاً نحو المدنية الحديثة.
ومما لا شك فيه أن الإسلام بعيد أن يضمحل الآن بل أنه على العكس ينتشر ويزداد أشياعه ويتجدد له أنصار حتى في أوربا وأميركا حيث تجد له الآن طوائف من المسلمين ولكن هذا السير سيكون أبطأ من ذي قبل ويقوم المسلم بفروضه الدينية سراً. نعم يكون للمسلم كما