سادتي الأعزاء تقاضاني بعض الأحباب ديناً لم أرى بداً من فضائه على حين اشتداد الأزمة بل الأزمات في بلادنا. أرادوني أن أحاضركم بشيء مما جنيته في هذه الرحلة الثانية إلى بلاد الغرب من ثمرات مدنيته الزاهرة فلم يسعني إلا إجابة الطلب مع الشكر لحسن ظنهم وإن كان البحث في نهوض القوم أو في فرع من فروع ارتقائهم يحتاج إلى درس عميق وبحث دقيق ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله فإذا أتيتكم بأمور تعرفونها أو أكثرها فذاك لأني أحببت المبادرة إلى امتثال الأمر مع علمي بأني لا آتي بجديد على أنه جديد تحت الشمس.
كانت السياحة في سألف الأزمان ضرباً من شاق الأعمال ولكنها أصبحت في هذا العصر على سهولتها حاجة من حاجات المجتمع يحتاج الخاصة إليها أكثر من غيرهم ويدخل في الخاصة أرباب النعمة من التجار والزراع والصناع كما يطلق على العلماء والمفكرين والباحثين والمتعلمين وقد وردت عدة آيات في الكتاب العزيز في الحث على السياحة ولكن الشرق ضعف في العمل بهدي قديمه ولم يهتد إلى وجه الصواب في حديثه.
كان لأجدادنا يطوون الأميال والفراسخ أياماً وشهوراً لينتقلوا من قطر إلى آخر ونحن اليوم نسيح من شرق الأرض إلى غربها في أيام يسيرة ونقطع بضعة ألوف من الكيلومترات في ساعات معدودة ومع هذا ترى السائحين منا إلى الآن أقل من السائحين في العصور الماضية هذا إذا قابلنا بين سرعة المواصلات وتوفر أسباب الراحة في عصرنا وفقدانها في عصور أجدادنا أيام كان يقول ابن زريق البغدادي وقد رحل من بغداد إلى الأندلس:
ما آب من سفر إلا وأزعجه ... رأي إلى سفر بالبين يجمعه
كأنما هو في حل ومرتحل ... موكل بفضاء الله يزرعه
إننا إذا رحلنا اليوم إلى الغرب نجدد حياتنا بعد ذبولها ونقوي حواسنا بعد انثلام حدها وندخل في طور نتعلم فيه ونعتبر ونتعود عادات حسن أكثرها وجدير بنا أن نقتبسها عمن سبقونا مراحل وأشواطاً لأنها نتيجة علم متوارث ونظر بعيد متسلسل فكل ما نراه في بلاد الغرب وهو عمل مقرون خلت وأجيال علمت فعلمت: