للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[غرائب الغرب]

الرحيل من دمشق إلى لبنان

١

كان من أعظم أماني النفس منذ بضع سنين أن أرحل إلى أوربا رحلة علمية أقضي فيها ردحاً من الدهر للتوفر عَلَى دراسة حضارة الغرب في منبعثها واستطلاع طلع المعاهد التي نشأ المخترعون والمكتشفون والفلاسفة المنزهون والعلماء العاملون والساسة المستعمرون والقادة الغازون والتجار والصناع والزراع والماليون وهم على التحقيق مادة تلك المدنية وهيولاها.

وكانت الأحوال تعوق هذا القصد عن إتمامه وتحول دون البغية المنشودة إلى أن قدر الله فأقام والي سورية السابق تلك القضية الملفقة على جريدة المقتبس واحتال انتقاماً لنفسه لأقفال المطبعة وتوقيف الجريدة والمجلة قبل صدور حكم المحكمة عليَّ فقلت الآن حان وقت الرحلة في طلب العلم نتفرغ لتحقيق ما في الخاطر ريثما يتبين الحق من الباطل من العاطل وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم.

في الهزيع الأخير من ليل الثلاثين من رمضان (١٣٢٧) ركبت من دمشق عربة مع صديقين عزيزين قاصدين قرية القابون وفي ظاهرها وقفنا لحظات إلى أن وصلت فرسي ووصل صديقٌ لي راكباً فرسه فركبنا وعاد ذانك الحبيبان إلى المدينة. وكان بدأ في تلك الساعة الإشراق في الأفق والسكون لم يبرح مستحوذاً على الأرباض والرياض ولم نكن نسمع من بعيد غير قعقعة أجراس الطحانين والمكارين وصياح الديكة أو عواء الكلاب وما كدت أعلو متن مطيتي حتى ترامى إلى مسمعي صوت مؤذن القابون ينادي هلموا إلى طاعة الله يرحمنا ويرحمكم الله فقلت كلمة حق لو جرى العمل بالطاعة وما يلزم لها لرحموا ولكنها جمل جميلة تقال ومعان شريفة لا يعمل بها وعادات ألفت بمعزل فيها من الأسرار النافعة في صلاح المعاش والمعاد.

التفت إلى الغوطة الدمشقية التفاتة أخيرة وهي أحب بقعة إلى قلبي في الأرض وقد كثر في أفقها شفق الفجر فذكرت طرفاً من أيامها البيض والسود. ذكرت الغوطة المحبوبة وذكرت مطامع البشر وانحطاط أخلاقهم وعقولهم فقاد ذلك إلى التفكر في شقاء الإنسان بالإنسان