إن من يلقي نظرة التاريخ الإسلامي ويرى ما كان عليه المسلمون في القرون الأولى من عزة الجانب وقوة السلطان وحرية الأفكار واتحاد الكلمة وما هم عليه اليوم من وهن العقيدة وضعف العزيمة وانحلال الرابطة قد نالت منهم الأهواء وفتك فيهم داء الشقاء تذوب نفسه حسرة وأسى ويتشوق إلى الوقوف على ما أصاب المسلمين فبدّل من حالهم ونزل بهم م مستوى العظمة إلى حضيض الضعة والمهانة وهم اليوم أعز من سلفهم نفراً واكثر مالاً وأرقى عيشاً وهذا كتاب الله وسنة رسوله وهما الأساس المتين الذي قامت عليه قوة الإسلام ومنهما قد انبثق نوره وأضاءت محجته يتليان بين ظهرانيهم بكرة وعشياً. وهذه معاهدهم العلمية تخرج في كل عام من رجال الدين وحملة الشريعة وأرباب الأقلام ما يربو عدده أضعافاً مضاعفة على ما تخرجه قرون كثيرة في أول الإسلام.
ليت شعري كيف لا يذهل قاريءٌ التاريخ مما وصلت إليه حالة المسلمين وهو يرى أن الإسلام قد ظهر بتعاليمه السامية ومبادئه العالية فأشرق نورها على أفئدة قوم لم يسبق لهم عهد بالمدنية ولم يعرفوا بين الأمم إلا بجفاءِ التربية وعبادة الأوثان وشن الغارات وشظف العيش وخشونة الطباع اللهم إلا بعض أخلاق كريمة كالكرم والوفاء ونحوهما مما لا يعد ركناً وكيناً تستند عليه الأمم في نهضتها فما لبث أن حرر الأفكار من عقالها وبعث الهمم من مراقدها وأنشأ منهم نشأ جديداً فلم تكن عشية أو ضحاها حتى تجلت عروس تلك المدنية العربية في ثوبها القشيب جامعة بين قوة السلطان وصولة العلم بين التسامح والشدة فعمروا الأرض وأحيوا فيها موات الفضيلة وبلغوا شأواً عظيماً من رقة الشعور وصفاء العقل فمكنهم ذلك من التلطف بالأمم حتى وقفوا على خفيات أخلاقها وعاداتها وكشفوا ما كان مستوراً عهدها واستخرجوا من كنوز معارفها ودقائق حكمها ما ظهر فضله على الأوربيين بعد عدة قرون من البعثة النبوية.
نعم لم يمض جيل حتى أخذت دولة العلم تعانق دولة الإسلام في جزيرة العرب وما فتحه المسلمون من الأمصار فينبغ فيهم الحكيم والطبيب والفيلسوف والمهندس والمخترع والفقيه والمحدث والسياسي المحنك والأصولي البارع والإمام العادل فأخذ هؤلاء يجوبون الآفاق يقودون طلائع تينك الدولتين أينما حلوا حل معهم ما استفادوا من صنائع الفرس والآريين