البديع فن جليل وركن من أركان البلاغة لا يستهان به وإن توهم كثيرون خلافه. ولكنه متى يقوم ضعاف النظر في الصناعة الشعرية ركبوا فيه متن التكليف وقصروا هممهم على نظم أنواعه بلا مراعاة ما تقتضيه الصناعة من المقتضيات وأهمها إبراز المعاني في قوالب يصح أن يسمى بها النظم شعراً فتراهم إذا ظفروا بإيداع البيت شيئاً منه ضربوا صفحاً عما عداه ولم يبالوا بعد ذلك بعلو أو انحطاط حتى كاد هذا الفن أن يكون مقصوراً على هذا الضرب من النظم وأصبح فيما نراه فيه من المهانة عند البلغاء.
ومن العيوب المزرية بقدره مزجهم الغث بالسمين من أنواعه وإدراجهم فيه ما لا يصح أن يكون نوعاً بديعياً أو ما هو جدير من المقبحات لا من المحسنات بَلهَ خطبهم في بعض التعاريف والخطأ في الاستشهاد وإدخال بعض الأنواع في بعض بحيث أصبح في حاجة كبرى إلى تهذيبه وتخليصه من تلك الشوائب.
وأنا ذاكر في هذه النبذة رأباً عنَّ لي في نوع منه وضعه ابن المعتز وسماه بتأكيد المدح بما يشبه الذم ودعاه بعضهم بالمدح في معرض الذم وآخرون بالنفي والجحود والتسمية الأولى أولى لسلامتها من الاعتراض ولكونها أوضح دلالة على النوع. وقد قسمه علماء البديع إلى قسمين قسم عرفوه بأنه نفي صفة ذم ثم استثناء صفة مدح وقالوا أنه أفضل القسمين واستشهدوا عليه بقول النابغة الذبياني:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فول من قراع الكتائب
ويقول من يقول زيد لا عيب فيه سوى أنه يكرم الضيف. والقسم الثاني عرفوه بأنه إثبات صفة مدح ثم استثناء صفة مدح أخرى نحو أنا أفصح العرب بيدني من قريش ونحو قول النابغة الجعدي:
فتىً كملت أخلاقه غير أنه ... جواد فما يبقي من المال باقيا
وكلامنا في القسم الأول فقط أطلت النظر فيما كتبه علماء هذا الفن قديماً وحديثاً فظهر لي أنهم تساهلوا في تعريفه فأداهم التساهل إلى الخلط بين شواهده كما ترى. والذي استبان لي ويستبين لكل متأمل أن بينهما فرقاً واضحاً يقسم به النوع إلى نوعين. ولبيان ذلك نقول أن استشهادهم ببيت النابغة استشهاد صحيح مطابق تمام المطابقة لاسم النوع الذي اختاره واضعه لأن وصف سيوف القوم بأنها مفلوقة مثلومة لا يشك أحد في أنه عيب يذمون به