قالوا العلم علمان علم الأبدان وعلم الأديان أو دنيوي وديني فالدنيوي علم ما فيه صلاح المعاش وحفظ النظام في عالم الكون والفساد والديني كل ما له مساس بالمعاد وتهذيب النفس والابتعاد عن المنكرات في هذه الفانية للظفر بالباقيات الصالحات في تلك الدار الباقية.
كان العلم الديني لأول أمره موجزاً مندمجاً لم يتعد قواعد مقررة وأصولاً نافعة فكان العربي يقصد الرسول عليه السلام يعلمه الدين في ساعة ثم يحيله على القرآن ويقول له اذهب راشداً وبشر عشيرتك وأهلك فقد عرفت من الدين جوهره وسره وما ينبغي له. فمن ثم دام الإسلام إلى السذاجة حتى قامت قائمة العصبيات من أجل التنازع على الملك وتجاذب حبل السلطة فمزج الدين بالسياسة ودخل في الإسلام من لا يهمه منه غير المغانم وراح بعضهم يدسون ما لم يقل فيما قيل وكثر المنافقون ممن سعوا بالدين في سرهم وهم من اتباعه في جهرهم وأنشؤوا يلبسوا ثياب الأصدقاء وهم له أعداء ماكرون.
دسوا عوامل إفسادهم وفي القوم يومئذٍ صفوة من الأخيار توفروا على محاربة البدع والموضوعات بكل لسان وبنان بل بكل سيف وسنان وكانوا على إخلاصهم وتأثيرهم كلما استأصلوا شأفة فاسد نبض من الأفسد نابض ورجال السياسة وأكثرهم لا يرجع في الغالب إلى رأي ومذهب يدهنون من وراء ذلك لحملة الدين ويبذلون لهم ما يستغوونهم به لينطقوا بألسنتهم ولا يفسدوا عليهم أمرهم إذا رفعوا أصواتهم ونعوا عليهم تبديلهم لما أنزل وإلصاقهم به ما ليس منه. ولما رأى العقلاء عائث الفساد يدب دبيبه في علوم المعاد خافوا أن يتدرج من العبث بالأعراض إلى العبث بالجواهر فلم يروا بداً من التدوين والتقييد والدلالة على مواضع الضعف والسخف ليبدو السليم لا شائبة فيه. وأنت خبير بما يقتضي ذلك من التطويل دع عنك ما يتخلله بالطبع لأن في القائمين به العالم العامل وفيهم صاحب البدعة والمقالة.
مضى على هذه الحال ردح من الزمن وعلوم الدين لم تمتزج بشيءٍ من علوم الدنيا إلى أن دخلت علوم الحضارة في الملة وسموها علوم الأوائل ورأت من بعض خلفائنا من أخذ