للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حسنات القرن الماضي وسيئاته]

لقد تناول الانقلاب الذي طرأ على الأخلاق العامة أسلوب الطعام أيضاً فإن سرعة المواصلات وسهولتها وميل الحواس الظاهرة وارتقاءها قد أبدل ضرورة الطعام بضرورة الحس الظاهر بمعنى أن الإنسان رجاء إرضاء شهواته الذوقية قد تعدى حدود القناعة بأن آثار الشهوات الصناعية بالتوابل الخاصة والمنبهات الداعية إلى النهم حباً بالإكثار من ضروب الأطعمة والملاذ فقد انتشر فن الطبخ وإجادة الألوان في الأقطار على اختلافها من حيث الحرارة والبرودة وما اختلفت كمياته وكيفياته. كل ذلك لتحقيق شهوات النفوس وأذواق السكان في أنواع الطعام دون النظر إلى ما يحول دون ذلك من عدم الملاءمات الشخصية والمكانية مع هذه الطريقة في التغذية المختلفة الألوان والأشكال. وما أصدق ما قاله أحدهم من أن ما نتناوله اليوم من الأطعمة ينقسم إلى ثلاث درجات أحدها لضرورة الغذاء وثانيها لضرورة الذوق وثالثها توقعاً للأمراض التي تصيبنا في المستقبل. وقال شيشرون الخطيب الروماني: لقد أحدث الشره من المصائب أكثر مما أحدث الحرب فإنه مصدر كثير من الأوصاب والأدواء. فأرباب الشره مستسلمون لعاداتهم في طعامهم وشرابهم بحكم الذوق لا بحكم الضرورة ولذلك تراهم عرضة لكثير من الأمراض ومنهم من يغتر بما يكرعه من المياه المعدنية في فرنسا والنمسا (في فيشي وكارلسباد) وسائر البلاد التي تنبجس فيها أمثال تلك المياه فترى في كل سنة يزور كلاً من تينك البلادين زهاء خمسين ألف زائر ويغرهم تسهيلها الهضم معهم حتى إذا رجعوا إلى أهلهم قريرة أعينهم بما شاهدوه من التحسين في صحتهم يعودون إلى سالف عاداتهم من النهم والبطنة والبطنة كما قيل تأفن الفطنة فيندمون على ما فرطوا في جنب معدهم ولكن بعد أن يسبق السيف العذل.

وإن السواد الأعظم من العاملين الذين يتألف منهم جيش المجاهدين في الحياة ليقضون النهار في أماكن محصورة بعضهم في مصنع وآخر في غرفة عمله وفريق في مكتب وغيره في مخزن وكلهم يعملون بلا انقطاع بأيديهم أو بعقولهم فيصرفون جميعاً جزءاً عظيماً من قواهم الطبيعية والعقلية ولا يتناولون أطعمتهم في أوقاتها ولا يرتاحون بعد غذائهم راحة كافية لتعمل الأعضاء الهاضمة عملها ولا يألفون من أنواع المسليات غير أماكن القهوة ودور التمثيل فيستنشقون هواءً ملوثاً بأكسيد الكربون وحامض الكربون وغيره