كل شيءٍ يشرف ويوضع بشرف القائمين به ووضاعتهم وكل علم يشرف ويوضع على نسبة اعتبارية من فائدة تتوقع منه وغاية تكون وراءه وصناعة الموسيقى هي من إمارات الظرف تعدُّ عند الأمم الحديثة المتحضرة من الفنون الجميلة كما كان يعهدها العرب إبان حضاراتهم من الكماليات.
قال ابن خلدون والغناء يحدث في العمران إذا توفر وتجاوز حد الضروري إلى الحاجي ثم إلى الكمالي وتفتنوا فتحدث هذه الصناعة لأنه لا يستدعيها إلا من فرغ من جميع حاجياته الضرورية والمهمة من المعاش والمنزل وغيره فلا يطلبها إلا الفارغون عن سائر أحوالهم تفتناً في مذاهب الملذوذات وكان فيسلطان العجم قبل الملة منها بحر زاخر في أمصارهم ومدنهم وكان ملوكهم يتخذو ذلك ويولعون به حتى لقد كان لملوك الفرس اهتمام بأهل هذه الصناعة ولهم مكان في دولتهم وكانوا يحضرون مشاهدهم ومجامعهم ويغنون فيها.
قال وأما العرب فكان لهم أولاً فن الشعر يؤلفون فيه الكلام أجزاءً متساوية لم يزل هذا شأنهم في بداوتهم وجاهليتهم فلما جاء الإسلام واستولوا على ممالك الدنيا وحازوا سلطان العجم وغلبوهم عليه وكانوا من البداوة والغضاضة على الحال التي عرفت لهم مع غضارة الدين وشدته فيترك أحوال الفراغ وما ليس بنافع في دين ولا معاش فهجروا ذلك كثيراً ما ولم يكن الملذوذ عندهم إلا ترجيع القراءة والترنم بالشعر الذي هو ديدنهم ومذهبهم فلما جاءهم الترف وغلب عليهم الرفه بما حصل لهم من غنائم الأمم صاروا إلى نضارة العيش ورقة الحاشية واستحلاء الفراغ وافترق المغنون من الفرس والروم فوقعوا إلى الحجاز وصاروا موالي للعرب وغنوا جميعاً بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير وسمع العرب تلحينهم للأصوات فلحنوا عليها أشعارهم وظهر بالمدينة نشيط الفارسي وطويس وسائب خاثر مولى عبيد الله بن جعفر فسمعوا شعر العرب ولحنوه وجادوا فيه وطار لهم ذكر ثم أخذ عنهم معبد وطبقته وابن سريج وأنظاره وما زالت صناعة الغناء تتدرج إلى أن كملت أيام بني العباس عند إبراهيم بن المهدي وإبراهيم وابنه إسحق وابنه حماد.
قال وكثر ذلك ببغداد وأمصار العراق وانتشر منها إلى غيرها وكان للموصليين غلام اسمه زرياب أخذ عنهم الغناء فأجاد فصرفوه إلى المغرب غيرة منه فلحق بالحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل أمير الأندلس فبالغ في تكرمته وركب للقائه وأثنى له الجوائز