بدأت في صيف سنة ١٩١٤ (١٣٣٢) سلسلة من أشأم سلاسل المصائب البشرية لم يعهد لها نظير في تاريخ الأمم السالفة وربما لا يكون لها مثيل في تاريخ الأمم الخالفة ونعني نشوب حرب عامة سالت بها الدماء أنهاراً وعد فيها القتلى بمئات الألوف بل بالملايين وما كان الناظرون في حركة السياسة الأوروبية يظنون أن الحالة تؤدي إلى إشهار هذه الحرب الضروس وتطيش بالنفوس إلى حد يتقاتل المتماثلون والمتجاورون والأقرباء الأدنون ولكن هي المصلحة السياسية المادية تعلو فوق المصالح وتنسى في جانبها القرابة والنسب واللسان والمذهب.
السبب الرئيسي في هذه الحرب أن إمبراطورية النمسا والمجر كانت على ما جاء في الكتاب الأبيض الألماني تحاذر من الدعوة التي كانت تنتشر لسلخ الأقسام الجنوبية الشرقية من أملاكها وهي السياسة التي عاضدتها الصرب وجاهرت بها متكلة على معاضدة روسيا لها وهذه كانت تسعى بكل قواها إلى تحقيق هذه الآمال بعقد التحالف البلقاني وذلك بأن الصرب المجاورة لمملكة النمسا والمجر كانت تتقوى الحين بعد الآخر خصوصاً بعد الجرب البلقانية وقد زاد سكانها واتسعت رقعة ممالكها وأخذ الصربيون من سكان النمسا والمجر يتحفزون للوثبة وروسيا ممثلة العنصر الصقلبي العظمى تضمر خلاف ما تظهر فرأت النمسا حياتها صائرة إلى خطر خصوصاً بعد أن أثبت التحقيق أن مقتل ولي عهد النمسا والمجر الأرشيدوق فرنز فردينند في مدينة بوسنة سراي بينما كان ينوب عن عمه الإمبراطور فرنسيس يوسف في حضور المناورات كان بيد جمعية سرية صربية فهلك وقرينته على صورة اشمأز منها العقلاء وذلك لأن الصرب كانت تعد هذا الأمير عائقاً عن بلوغ آمالها فلم يسع النمسا وقد رأت هذا العمل ألفظيع الذي هاجت له أعصاب سكانها إلا أن شهرت الحرب على الصرب يوم ٢٨ تموز فتقدمت الجيوش النمساوية في أراضي الصرب وأخذت تذيقهم العذاب ألواناً.
فشق ذلك على روسيا وأمرت بتعبئة جيشها على الحدود الألمانية والنمساوية فلما رأت ألمانيا أن حليفتها النمسا فتحت بينها وبين روسيا الحرب أنذرت روسيا وهددتها فلم يصادف إنذارها وتهديدها تأثيراً في دوائر حكومة القيصر وكان جوابها لألمانية أن على النمسا أن تسلم بالتوسط بينها وبين الصرب وإذا رفضت فلا مناص من إعلان الحرب وقد