من خطبة لرفيق بك العظم ألقاها في مدرسة القضاء الشرعي في القاهرة
ليس المراد بقضاء الجماعة هو قضاء هيئة مؤلفة من أكثر من واحد فقط كما قد يتبادر إلى الذهن بل هي بالمعنى المشترك أيضاً جعل قوة التشريع القضائي مصونة عن رأي الأفراد وتفردهم بالتشريع منوطة بالجماعة تثبتاً من الحكم واطمئناناً للدليل واعتماداً على ما هو الأصلح عند الجماعة إذا تعذر وجود النص.
إن مراعاة الأصلح قاعدة من أهم قواعد التشريع الإسلامي التي يدفع بها الحرج وتدرأ المفاسد عن المجتمع حتى لقد كان كبار الصحابة يراعون قاعدة الأصلح عند الضرورة مع وجود النص ويتنازعون عَلَى المسألة الواحدة يجيء بها النص من عدة روايات أو يحتاج إلى التفهم الدقيق تثبتاً من الحكم ورغبة بمحض الخير للأمة والعدل بين المتقاضين وبذلاً للجهد في بيان الحقيقة للمستفتين وقد قال ابن القيم تنازع الصحابة في كثير من الأحكام ولكن لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال. أي المسائل التي تتعلق بالأيمان.
قلنا أن المراد بقضاء الجماعة جعل قوة التشريع القضائي في حياز جماعة لا فرد لأن ذلك أسلم وأبعد عن الخطأ وأضمن للعدل وسببه أن الأحكام التي يرجع فيها إلى الرأي والاجتهاد أو القياس عند تعذر وجود النص أو عند لوم ترجيح رواية من الروايات تحتاج إلى شروط قلما تتوفر في الفرد الواحد وإن توفرت له فربما لا يتيسر له تحري المصلحة وتطبيق الحكم عليها من كل وجه بحيث لا يخالفه فيه غيره ممن هو في طبقته من أهل العلم.
اعتبروا ذلك في أئمة المذاهب المجتهدين فإنه مع بذل كل واحد منهم في تقرير فروع المذهب وأصوله منتهى الجهد في تحري صحيح الآثار والأخبار وتتبع أصول الشريعة فقد اختلفوا في كثير من المسائل واختلف اتباعهم بعد ذلك اختلافهم أيضاً فكان من ذلك انقسام القضاء الإسلامي عَلَى نفسه حتى وجد في بعض العصور أربعة قضاة لأربعة مذاهب في مصر واحد من الأمصار الإسلامية هذا فضلاً عن اختلاف فقهاء كل مذهب أيضاً في المسألة الواحدة حتى أصيب الإفتاء بما أصيب به القضاء من التشتت والانقسام واضطرب أمر العدالة أيما اضطراب مع أن الأصل لهذه المذاهب واحد وهو الدين الإسلامي المبين.