في الناس من يحكمون على الأشياء بظواهرها وعلى كليات الأمور بجزئياتها فيأخذون من الغلط صواباً ومن الباطل حقيقة ويا ليتهم ما استنتجوا ولا استنبطوا. عادة يكفي في وصف قبحها بأنها تخلط بين الحق والباطل والصدق والكذب. ولقد كنت استحلي من بعض أهل العلم تأففه من سماع الاستنباط في الأخبار علماً منه بأن صحة البرهان تكاد تكون مفقودة في الأمة فكان شأنه إذا قصَّ عليه أحد قصة أن يشير إليه بترك الاستنباط وأن يكتفي بذكر نبأه مجرداً عن الشروح والحواشي وحواشي الحواشي.
ومن سوء الاستنتاج أو الاستنباط دعوى بعضهم أن سوق الشعر لما راجت في الأندلس كانت السبب في زوالها وتبديد شمل أهلها لتشاغل القوم به عن الذود عن حياضهم. والظاهر أن القائل بهذا القول طالع بعض كتب التراجم وفيها شيءٌ من الشعر للمترجم بهم فظنَّ أن هذه العناية بالقريض سلبت من النفوس الاستقلال ونزعت منها قوة الإرادة وأغرقتها في بحور الترف والسرف وفاته أن الشعب في تلك البلاد كان في أخلاقه وعلمه وقت زوال ملكه أحسن من كثير من الشعوب الباقية اليوم وأن ملوكهم هم الذين يبوءون بالتبعة وأحق باللوم والتعنيف.
نعم كان للقوم غرام أيامئذ بالشعر والأدب لأنهما وسيلة إلى العلوم كافة حتى قيل عن المعتمد بالله بن عباد الأندلسي أنه كان لا يستوزر وزيراً إلا أن يكون أديباً شاعراً حسن الأدوات فاجتمع له من الوزراء الشعراء ما لم يجتمع لأحد قبله ولم يكن الشعر هو القاضي على تلك المملكة وإنما هو اختلاف كلمة المتغلبين ووجودهم وسط أعداء أشداء يسعون كل يوم إلى تأييد سلطانهم والنيل من عداتهم والأخذ بالقديم من ثاراتهم على حين كان أمراء الطوائف بالأندلس لاهين ساهين همة أحدهم كأس يشربها وقينة تسمعه ولهو يقطع به أيامه وبلغ من تخاذل ملوك الأندلس وتواكلهم إن كان ملوك النصارى يأخذون الإتاوة من ملوكها قاطبة يدفعونها إليهم في حين ضعفهم عن يد وهم صاغرون. ولما تمكن حب الأثرة من جوانحهم أخذ أحدهم يلتجئ إلى عدوه الإفرنجي ليعينه على أخيه وأبيه.
ولذا كان العقلاء يتنبأون بذهاب الأندلس عن حكم المسلمين قبل سقوطها بزهاء قرنين ومن