عرف أن التجارة أول نشأتها لم تتجاوز البحر المتوسط بل حصرت في سواحل فينيقية وبلاد الكلدان والعربية وغيرها من بلاد المشرق أيام توفرت لديها المعارف والعلوم وأينعت فيها ثمار الصنائع والفنون حتى صارت محط رحال التجارة بين المشارق والمغارب وزينة الأموال وموارد الخيرات والمكاسب ويهرع إليها الفاتحون من كل فج وصوب ليشاطروها الأرباح العظيمة ويسلبوها الصنائع العجيبة ويتهافت عليها الغزاة تهافت الفراش عَلَى السراج ولكنهم ما كانوا ينتفعون بذلك بل كان تهافتهم وبالاً عليهم في كل آن.
وبقيت شآبيب المرابح والخيرات تنهل عَلَى الشرقيين فتتدفق عليهم سيول الثراءِ من سحاب الكد والجد إلى أن نظر إليهم الزمان بعين ملؤها الحسد فألهم الإفرنج أن يكتشفوا طريقاً جديداً إلى الهند فآل الأمر إلى فاسكودي غاما ذلك الرجل العظيم الذي وجد طريقاً حول رأس الرجاء الصالح وحوّل بذلك المشروع جانباً كبيراً من تجارة الهند والصين ليسقي به ربوع الغرب فارتشفت من معينه إنكلترا وإسبانيا والبرتقال وهولاندة حتى عمت الفائدة أغلب أقسام أوربا وبقي للشرقيين من ذاك الوقت جزء يسير من التجارة يطرد بطريق حلب ودمشق ومصر نظراً لما كانوا يملون أنفسهم من المخاوف والأخطار ويركبون الغرر والأهوال في طريقهم حول رأس الرجاء الصالح أو أفريقية واخذ يتزايد يوماً فيوماً إلى أن فتحت ترعة السويس سنة ١٨٦٩ عَلَى يد دي لسبس المهندس الفرنسوي الشهير فدار بذلك دولاب التجارة وعم نفعها العالم غير أنها مع كثرة منافعها إليه ما كانت لتخلو من مضار للسلطنة التي فتحت فيها وذابت مهج رجالها في حفر رمالها وعطلت من أجلها تجارتها بل كانت منفعتها لمن قاوم أشد المقاومة ألا وهي السلطنة الإنكليزية التي استأثرت بأكثر فوائدها.
أجل إن فتح تلك الترعة كان سبباً من أهم الأسباب لتوسيع تجارة العالم وامتدادها لكن الذين باشروا ذلك المشروع ومابدوا فيه عرق القربة قد قلب لهم الدهر ظهر المجن وتبدل نعيمهم بالبؤس كما يشهد لهم بذلك شرقي سورية وأسفل العراق ومدينة حلب التي كانت مركز المواصلات التجارية بين أوربا والهند فقد فقدت واردات تجارتها وعكس ذلك البصرة إذ صار لها بطريق السويس أوسع الأبواب لتصدير حاصلاتها كما تدل الآثار عَلَى ذلك.