رأينا في العهد الأخير حركة مباركةً نحو العمران في هذه الدّيار فقد فتحت في دمشق وبيروت وحلب والقدس ويافا وحمص وحماه وطرابلس وغيرها شوارع وجادات واستجدّت الهمّة لتغيير صورة المدن القبيحة بصورٍ جميلةٍ من الطّرز الجديد في البناء وشعر القوم وولاة امرهم بأنّ الطّرز العتيق في الأبنية ينبو عنه النظر ولا يسدّ الحاجة المطلوبة في البناء ولا ينمّ عن ذوقٍ بحيث أصبحت مدننا بعد ضياع فن الهندسة منها عبارةً عن قرى حقيرة واكنها واستعيض عن الحجر والآجرّ بالطين واللبن مما يسّع إليه البلا والحريق
والشرّ الأعظم في تراجع العمران في هذه البلدان عدم الاحتفال بفن هندسة البناءأو علم المباني فأصبح كلّ امرئٍ وما يختاره من البناء يبني على ذوقه بحيث لا تكاد تجد في أكثر المدن الداخلية أبنية من القرن الثاني عشر والثالث عشر هجرية إلا كئيبةً ينفر منها الذّوق وتتجافى عنها العين ولاتقوم بما تقوم به المباني في البلاد الممدّنة من الاقتصاد في النّفقة والرّاحة للسّاكن وجمال الدّاخل والخارج ولا ينافي ذلك كون بعض الدّور الجميلة داخل البلاد ولاسّما في دمشق جميلةٌ مزخرفةٌ تتوسطها أحواض الماء الدّافق وتعرّش على حوائطها النباتات والزهور وقد جعلت طابقين طابق أسفل للصيف وطابق أعلى للشتاء فإن هذه الدور قليلة العدد لاتكاد تجد في الحيّ الواحد داراً أو دارين منها أما الحوانيت والمخازن فالجيّد منها أقل من القليل.
علم البناء هو علم إنشاء المباني على نسبةٍ معيّنةٍ وبحسب قواعد مقررة يجب أن يكون كلّ بناءٍ نافعاً من وجوهٍ فإن الحاجات المادية والإلهامات الروحية وطمأنينة المرء تملي على المهندس مجموع الخطة أو التّصميم الذي يطلب منه وتقسيم داخل البناء واتّساعه وغناه أوفقره ومن أجل ذلك انقسمت المصانع المعاهد كما قال الإفرنج منذ القدم حتّى زماننا إلى ثلاثة تقسيماتٍ كبرى وهي الهندسة الدينية والهندسة المدنية والهندسة الحربية.
كانت مصر وآسيا مهد علم المباني وأجمع الباحثون أن أهرام منفيس أقدم المصانع التي عرفناها وأبا الهول المنحوت في الصخر في الجيزة القائم تحت رجليه معبدٌ من الصوان والرّخام الأبيض لا يتأتى فصله عن الأهرام ولم تعرف المسلات في مصر إلا على عهد الدولة الثانية عشرة من دول ألفراعنة وارتقت الهندسة المصرية زيادةً عن ذي قبل على عهد الدولة التاسعة عشرة والدولة العشرين.