ظهرت الهندسة في بابل ونينوى في بناء السدود والأسوار أولاً وحازت حدائق سميراميس ومعبد بعل شهرةً مستفيضةً وبحقٍ ما اشتهرت ولم يقض على بنيانها ويدخل البلاد إلى تضاعيفها إلا ما جعل فيها من القرميد. وكان للمعادن شأنٌ عظيمٌ في معاهد الفينيقيين واليهود وكانت الهندسة الهندية تتمثل في معابد الهند ومدافنها وبيوت أصنامها. وعُرفت أثينا بأنها مهد الانقلاب الهندسي في العالم فبلغت فيها الهندسة في عهد بركليس وفيدياس أرقى درجاتها وتمثل الذوق اليوناني في المعابد أكثر من أي شيء وأثّر في هندسة الغرب حق التأثير.
وتفنن الرومان في البناء وخلّفوا في كل مكانٍ امتدّ سلطانهم عليه من آثار الهندسة في الطرق والمجاري والأسوار والمسارح والحمامات ما شهد لهم باتساع ألفكر والهندسة العملية والمتانة في العمل. ولما انتشر الدين المسيحي واعتُبر ديناً لإمبراطورية الرومان على عهد قسطنطين أخذ المسيحيون يبنون معابدهم على مثال معابد الوثنيين مع تزيين ظواهر البناء وتضاف إليها أبراجٌ وقبابٌ للأجراس. وتفنن البيزنطيون بالنقوش في البناء ويدخل فيها الرّخام والمعادن والفسيفساء وكنيسة آياصوفيا في الأستانة وهي أجمل مثالٍ من هندسة الكنائس في القرن السادس.
قال العارفون من ألفرنجة: لم يخترع العرب أبنية خاصة بهم بل تجلى في هندستهم حبهم للزخرف واللطف واخترعوا القوس المقنطر ورسم البيكارين وكان تفننهم في هندسة القباب والسقوف والمعرشات من الأشجار والأزهار مماجعل لجوامعهم وقصورهم بهجةً لا يبلى على الدّهر جديدها ودلت كل الدلالة على إيغالهم بالنقوش والزينة كأن أبنيتهم ومصانعهم هي قماشٌ من أقمشة الشرق تفنن حائكها في رقشها ونقشها.
جاء القرن الثاني عشر في أوروبا وهندسة البناء تنتقل من طورٍ إلى طور حتى إذا كان القرن الخامس عشر كانت إيطاليا بفضل نهضتها صاحبة المقام الأول في الهندسة وعن هندسة معاهدها ودورها نقل لفرنسيس والإسبان ولإنكليز والألمان والسويسريون. ومن أمم أوروبا من أضاعت أصولها القديمة في البناء واتخذت من أصول الطليان نموذجاً حسناً سارت عليه كما لا تزال الأمم تتخذ من طرز الهندسة العربية الأندلسية نموذجاتٍ إلى هذا العهد ومنها محطة السكة الحجازية الحديثة في دمشق وهي أبدع بنايةٍ حديثةٍ في هذه