لم تبلغ أمة من الدهاء ما بلغه الانكليز فيه وكأنه خلق استحكم فيهم مع الزمن وتوارثه الاخلاف عن الاسلاف وتسلسل فيهم حتى أتى بالعجائب ومن درس تاريخ هذه الأمة يراها تصبر وتصابر لأول وهلة وقلما طاش لها سهم فإذا رأت الفرصة وثبت ومتى انفسح لها المجال جالت.
تثبت هذه المقدمة من مسألتين تجلى فيهما دهاء الانكليز في التاريخ وهو أن الحروب الصليبية التي دامت في سورية نحو قرنين وأهرقت فيها الدماء سيولاً لم تنته وترجع دول النصرانية عن حرب دولة الإسلام إلا بتدخل ريشاردس قلب الأسد صاحب انكلترا إذ ذاك في الأمر فعرض سراً أن يزوج أخته من أبي بكر بن أيوب شقيق الملك الناصر صلاح الدين بن أيوب ولو رضي القوس لما تأخر صاحب انكلترا عن إجراء هذا العقد فانظر إلى دهاء هذا الرجل وهو في القرون الوسطى وفي صدد حرب دينية كيف يتسامح بزواج أخته من غير ابن نحلته حرصاً على مصلحته، قال أبو الفدا في حوادث سنة سبع وثمانين وخمسمائة: تراسل الفرنج والسلطان في الصلح على أن يتزوج الملك العادل أخو السلطان بأخت ملك الانكتار ويكون للملك العادل القدس ولامرأته عكا فحضر القسيسون وأنكروا عليها ذلك إلا أن ينتصر الملك العادل فلم يتفق بينهم حال.
هذا هو الباب الأول الذي طرقه ملك الانكليز فلم يفلح لتعصب قومه وكان قد رأى أن ملك الألمان جاء عن طريق الاستانة براً إلى فلسطين في مئة ألف من رجاله فهلك معظمهم في بلاد الأرمن ولم يصل منهم على ما قال المؤرخون سوى ألف نسمة حتى أن ملكهم هلك غرقاً في نهر في الأناضول كان انغمس فيه ليستحم فأيقن ريشاردس أن أمر هذه الفتن يطول وأن الغنيمة التي دعا إليها بطرس الراهب أي استخلاص بيت المقدس من أيدي المسلمين لا توازي هذا القدر من العناء فطرق باباً ثانياً فجاء بعد أن شاهد جبل الصليبيين قد اضطرب وطلب الصلح بعد أن يئست الرسل في عقده وعجل بمخابرة صلاح الدين في معنى الصلح فبعث في إحدى تلك السفارات يقول لصلاح الدين لا يجوز لك أن تهلك المسلمين كلهم ولا يجوز لي أن أهلك الفرنج كلهم قال القاضي ابن شداد بعد أن ذكر ما عرضه ملكهم من شروط الصلح العجيبة: فانظر إلى هذه الصناعة في استخلاص الغرض باللين تارة وبالخشونة أخرى وكان مضطراً إلى الرواح وهذا عمله مع اضطراره والله