أوعز إليّ بعض أصدقاء هذا المنتدى الكريم أن أحدثكم بما رأيت في رحلتي الأخيرة إلى أوربا فلم تسعني مخالفتهم لأن الطلاب أعزة وتبادل الأفكار مهم مع أشرف المطالب ولكن الموضوع كبير لا يتسع وقتي الآن للإحاطة بأطرافه كله ولا أوقات الحضور الكرام إلى وعيه وسماعه ولذلك أقتصر منه في هذه الليلة عَلَى الإشارة إلى طرف مما تأثرت به نفسي في درس معالم الحضارة الأوربية في أماكنها واستطلاع طلعها بالعمل بعد الاشتغال بدراستها بالنظر مدة. ولذا أستميح عذركم إذا لحظتم في أقوالي شيئاً مما لم يعتد بعضكم سماعه فأنا أقص عليكم شعوري ولا حرج عَلَى الشاعرين كما لا حرج عَلَى الشعراء.
أول ما يقع عليه نظر الداخل إلى أرض أوربية ذاك الانتظام الغريب في مرافق الحياة فيسقط لأول وهلة عَلَى نموذج صالح من استبحار العمران هناك بل يتجسم في عينه وذهنه ما سعت إليه ولا تزال تسعى تلك الأمم الراقية من الأخذ بأسباب الراحة والبسطة من طريق التكمل العلمي والنشوء الاجتماعي والعملي.
ولا يزال هذا النموذج من العمران يعظم في نظر السائح كلما طاف المعاهد وزار المشاهد وجال في القربى والدساكر والحواضر والقواعد. وكل فرع من فروع هذا الارتقاء العجيب يحتاج الناظر في وصفه إلى مجلد برأسه حتى يتجلى للسامع بعض التجلي وما راءٍ كمن سمعا.
مإذا أذكر لكم أيها الأخوان من حال أوربا ومدنية الغرب الراقية التي بلغها بقوة العقل وتطبيق العلم عَلَى العمل؟ أأحدثكم بصناعاتها التي تبهر النفس؟ أو باتساع متاجرها التي لا يحصيها العد؟ أو بارتقاء زراعتها التي تنادي بلسان حالها ومقالها بأنه لم يبق بعد ما بلغته غاية؟ أم أذكر لكم حال المجامع العلمية والسياسية والجمعيات الاجتماعية والنقابات التجارية والصناعة أم المدارس الجامعة والكلية والثانوية والابتدائية أم المتاحف والمعارض والمكاتب والمجالس والمصارف ودور التمثيل ومحال الطرب والأنس؟
كل هذه المشاهد كنت أختلف إليها في أوقاتها وأجتمع برجال العلم والأدب والسياسة منذ الصباح إلى ما بعد منتصف الليل ونفسي تتأثر بتغير المشاهد بحيث تملك عليّ مشاعري فلا استطيع التفريق في الحسنات كأني ابتليت بداء الاستحسان لا تقع عيني عَلَى شيء ولا