للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[تهذيب الكلام]

قال زكي الدين عبد العظيم بن عبد الواحد المشهور بابن أبي الإصبع المتوفى سنة ٦٥٤ في كتابه تحرير التحبير الذي فرغ من تعليقه بمصر في مستهل سنة أربعين وستمائة وهو من أجمل كتب البديع ومن أهم مخطوطات دار الكتب المصرية في باب التهذيب والتأديب: التهذيب عبارة عن ترداد النظر في الكلام بعد عمله لينقح ويتنبه منه لما مر على الناثر أو الشاعر حين يكون مستغرق الفكر في العمل فيغير منه ما يجب تغييره ويحذف ما ينبغيب حذفه ويصلح ما يتعين إصلاحه ويكشف عما يشكل عليه من غريبه وإعرابه ويحرر ما لم يتحرر من معانيه وألفاظه حتى تتكامل صحته وتروق بهجته.

فإن رزق من ارباب البلاغة وأصحاب الفصاحة جودة ذهن وغوص فكر وكمال عقل واعتدل مزاج وحسن اختيار ووقف على أقوال النقاد في حقيقة لابلاغة وكنه الفصاحة وما عُدَّ من محاسن الكلام وعيوبه ووقي شح نفسه بحيث يطرح ما لا يقدر على تغييره من كلامه فإن كلامه موصوفاً بالمهذب منعوتاً بالمنقح وإن قلَّ ابتكاره للمعاني. وقد كان زهيراً معروف بالتنقيح فإنه يروى أنه كان يعمل الفصيدة في شهر وينقحها في أحد عشر شهراً حتى سمي شعره الحولي المحلى ولا جرم أنه قلما سقط منه شيء ولهذا أشار أبو تمام بقوله:

خذها ابنه الفكر المهذًَّب في الدجى ... والليل أسود رقعة الجلباب

فإنه إنما خص بتهذيب الفكر في الدجى لون الليل أنه تهدأ فيه الأصوات وتسكن الحركات فيكون الفكر فيه مجتمعاً والخاطر خالياً ولاسيما في وسط الليل عندما تأخذ النفس حظها من راحة وتنال قسطها من النوم ويخف عليها ثل الغذاء فحينئذ يكون الذهن صحيحاً والصدر منشرحاً والقلب منبسطاً. واختياره وسط الليل دون السحر مع ما فيه من رقة الهواء وخفة الغذاء وأخذ النفس سهماً من الراحة لما يكون في السحر من انتباه أكثر الحيوان الناطق والبهيم وارتفاع معظم الأصوات وجرس الحركات وتقشع الظلماء بطلائع الضوء وببعض ذلك يتقسم الفكر ويتذبذب الخاطر ويشتغل القلب ويتفرق مجتمع الهم ووسط الليل خال عما ذكرناه ولهذا خص أبو تمام تهذب الفكر بالدجى عادلاً عن الطرفين لما فيهما من الشواغل.

قال وكنت قد اطلعت على وصية وصى بها أبو تمام أبا عبادة البحتري في عمل الشعر. كان أبو تمام ارتجلها فجاءت محتاجة إلى تحرير بعض معانيها وإيضاح ما أشكل منها