تقدم في البحث السالف ما أصاب المجتمع الغربي من السيئات والمضنيات والآن نلم بما أتاه القرن التاسع عشر من الحسنات والمقومات فنقول: إن الثورة السياسية الاجتماعية العظيمة التي حدثت في القرن الماضي في أوربا قد أثرت في تحسين القوى العقلية في الأجيال الحديثة كما أحدثت الاكتشافات العلمية وانتشار التعليم بين السواد الأعظم من الناس نشوءً وارتقاء في المجتمع الحديث وفي الأفكار التي يجري عليها فتحكم فيه حكمها وها نحن نعطي البيان حقه من شرح النتائج الظاهرة من التربية الحديثة طبيعية كانت أو عقلية أو أدبية ونذكر ما أثرت في الشبان من تغيير طرق معيشتهم وأعمالهم وأفكارهم حتى صار من هم بعضهم أن يسيروا بالإنسانية نحو الكمال وإن كان ذلك الآن من المحال.
وأعظم هذه الحادثات وأولها هي الثورة الفرنسية إذ قوضت المبادئ التي كانت أساساً للحضارة الأوربية مدة قرون عديدة وبهذا كانت فرنسا مهد الإصلاح الاجتماعي العظيم والأرض التي نمت فيها وربت تلك الأفكار الأساسية التي استولت على المجتمع الحديث كمساواة الجميع أمام القانون واشتراكهم في الحقوق والواجبات المدنية والسياسية وحرية العمل والصناعة وحرية الدين والفكر.
ولأمراء أن قد قل في العصور الغابرة عصر أثر في حياة الأمم الأوربية تأثيره في هذا القرن وما داناه قرن سابق ولا لاحق في أعماله. تلك الأعمال التي لم يقف نفعها عند حد الانقلابات السياسية بل تغيرت بها غايات الأعمال في المجتمع الإنساني وأماني الناس وأميالهم فدخلت الإنسانية كما قال بعضهم في طور جديد من الحياة مطالبة الإنسان بوضع أساس للحقوق كافة وللقوانين عامة على أن تكون روحاً لحق الحرية. نعم تغيرت المناحي والأفكار والعادات والنظامات الاجتماعية فتمثل للمرء ميدان الآمال الغريزية بعيد المضطرب ممتد الرواق وأيقن أن ساحة الجهاد شرع لكل العاملين فلم يفكر في غير تحسين حالته الاجتماعية بالعمل وتثقيف العقل. فانصرف بعضهم إلى العلوم والفنون وبعضهم إلى التجارة والصناعة وبعضهم إلى زراعة الأرض والاغتناء من غلاتها. وكل فرد من أعضاء هذا المجتمع يجتهد جهد طاقته في الأخذ بيد الترقي وإنعاشه من سقطته.