تحيا لغة كل أمة بحياة سياستها فإذا انتعشت هذه خدمت تلك فانتشرت ونمت. ومتى ضعفت السياسة ضعفت اللغة بضعفها. فقد رأينا اللغة الإنكليزية تغلبت على الفرنسية أو كادت في معظم أقطار المعمور لأن سياسة إنكلترا وابنتها الولايات المتحدة نافذة في القارات الخمس ولأن الشعوب الإنكليزية السكسونية أرقى الأمم بعلومها وآدابها وأخلاقها وصناعاتها ومتاجرها واستعمارها. واللغة أيضاً كالتجارة تابعة لعَلم الدولة فحيثما خفق لواء أمة وانبسط ظل سلطانها تتغلب بالطبيعة لغة ذلك العَلم والسلطان. والناس مفطورون على تقليد حاكمهم في منازعِه ومناحيه تقليدهم له في شعاره. واللغة رأس كل تقليد وشبُّه. وعلى هذه السنة جرى المغلوبون على أمرهم من الروم والقبط والترك والفرس في الدولة الأموية والعباسية وأخذوا يتلقفون العربية خصوصاً بعد أن نُقلت لغة الدواوين في عهد عبد الملك بن مروان الأموي من الرومية والفارسية إلى العربية وقال سرحون كاتب عبد الملك لكتاب الروم: اطلبوا العيش في غير هذه الصناعة فقد قطعها الله عنكم.
وقد اهتم الإنكليز لما احتلوا هذا القطر بجعل التعليم بالإنكليزية في مدارسه لينشأ لهم على الزمن جيل جديد يفهم مغازيهم ومراميهم ويكون عونهم على تأليف القلوب وواسطة للتفاهم فلا يستثقل ظلهم ولا يتبرهم بدولتهم. ومن تعلم لغة قوم وثق بهم وعرف تاريخهم وشرائعهم وأشرب قلبه حبهم. ولطالما رأينا من تعلموا العربية من متعصبي الإفرنج هاموا بالعرب وتاريخها وشريعتها ولا هيام أهلها بها وغاروا عليها غيرة الكرام. وكذلك الحال بالإنكليزية مثلاً فإنا نرى متعلميها يتشيعون لأهل تلك اللغة. ومن علم شيئاً والاه ومن جهل شيئاً عاداه.
حمي وطيس الحوار في الشهر الماضي في بهو الجمعية العمومية في هذه العاصمة بشأن إعادة التعليم بالعربية في المدارس الأميرية المصرية إلى ما كانت قبل سنة ١٨٨٩ فكانت حجة الحكومة أن العربية لا يتسع صدرها ولا ينطلق لسانها للعلوم العصرية وما تنتجه حضارة الغرب كل يوم من المسميات التي لا أسماء لها في هذه اللغة وأنها لو سمحت الآن بإعادة التعليم بالعربية في المدارس لأعوزها الأساتذة والكتب. وليس هنا محل تفنيد الآراء التي تمليها الأهواء السياسية في هذا الشأن، وإنما نلم بذكر رأينا العلمي في هذه اللغة التي يرميها المماحكون بأنه يتعذر عليها أن تكون بعد لسان العلم ومباءة الحكمة الغربية.