من البديهي أن للخلق عملاً كبيراً في الحياة الإنسانية يظهر أثره على كل فرد من أفراد النوع والحكم في هذا ثابت بالاستقراء مؤيد بالبداهة لا حاجة بنا إلى الفلسفة فيه وإقامة الدليل عليه. وإنما نريد أن نذكر من أثره في مجموع الأمة ما أصيب به أهل المشرق من الانحطاط الناشئ عن ضعف الأخلاق وفساد ملكات العلم بوسائل الحياة الطيبة التي يتمتع بها أمم غيرهم.
لا خلاف بين الباحثين في طبائع الأمم المشتغلين بتقصي أحوال الاجتماع في أن المدينة وإن كانت أثراً جميلاً من آثار ترقي الشعوب وتخلص العقل من قيود التقليد وتخلصه من أسر البداوة إلا أنها مرتع خصيب لجراثيم الأدواء المفضية إلى انحطاط الأمم التي تنو بنمو الحضارة وتتربى في أحضان المدنية. ومن ثم كانت المدنية أشبه بمرتفع ذي سلمين للصاعد والهابط لا ينتهي صاعده في الصعود حتى يبدأ بالنزول ذلك لأن الاستغراق في المدنية مدعاة للاستغراق في الملاذ بما يتوفر فيها من أسباب الراحة ودواعي الرفاهية وهما مجلبة الفساد الذي يتخلل أعضاء المجتمع فإما أن يتمكن منه فيرديه وإما أن يطاوله فيؤذيه.
وأكثر ما يظهر ذلك الفساد في الأمم العريقة في الحضارة البعيدة العهد بسلامة الفطرة حيث يتناهى بها الضعف الناشئ عن طول عهدها بالملاذ ويتولاها العجز عن مقاومة الفساد المتمكن في النفوس والأخلاق فتصير إلى حالة من الانحطاط تشبه حالة المريض بمرض معد كل من خالطه سرت إليه عدواه.
هذا شأن أمم الشرق التي توغلت في عصور المدنية منذ ابتدأ تاريخ الاجتماع البشري فكانت أقدم الشعوب عهداً بالتمدن لذا صارت إلى ما صارت إليه من الانحطاط وإهمال القيام على التربية الصحيحة التي تقاوم أعراض الضعف المتأتي عن الانغماس في المدنية والإمعان في سبيل الرفاهية وصار الغرب مع ما توفر فيه من أسباب الترف والحضارة أرسخ قدماً في المدنية وأبعد عن مكان الضعف لجدة مدنيته وقيامها على أصول التربية الصحيحة بما تسنى لأهلها من وجود بعض المخترعات النافعة كالمطابع التي أفادت الغربيين في تعميم العلم وتعليمه فوائد لا تحصى مع أن الطبع وجد قبل ذلك عند الصينيين من أهل المشرق ولم يستفيدوا منه ما استفاده الغربيون في رفع بنيان مدنيتهم على دعائم العلم الصحيح. ذلك لما قلناه من أن أمم المشرق الموغلة في الحضارة قد تولاها الضعف