لم يأت على الشرق العربي أيام كانت رياض الأزمنة وعهد السعود حقيقة كأوائل الدولة العباسية ولاسيما زمن المأمون والرشيد - علم زاهر وحرية مطلقة وسعة عيش وسيادة تامة ونصر مؤزر وسلام شامل والقول الفصل لأرباب العقل في كل حال وشأن. ولذلك لا يستغرب أن ينشأ أيام تلك الدولة مثل الجاحظ رجل العلم الراسخ والنظر السديد والأدب الناضج والبلاغة التي لم يكتب لمتقدم ولا لمتأخر في هذه الأمة العربية أن داناها على نحو ما أجمع كبار أرباب هذه الصناعة.
ولد الجاحظ وطير اليمن يغرد في الأصقاع الإسلامية وناهيك بالعراق في قرنه الثاني والثالث. فكانت هذه الأسباب على ما خص به من جودة الفطرة أكبر معين له للقبض على قيادة العلم النافع وتحكيم العقل السليم في المنقول ولقد تخرج بالنظام صاحب المذهب المعروف في علم الكلام ولكنه لم يجمد على علمه وحده وإن كان رأساً في علم الكلام وله مقالة معروفة بع في أصول الدين وفرقة تعزى إليه من فرق المعتزلة أعقل أرباب المذاهب في الإسلام دعيت الجاحظية.
الجاحظ وعاءٌ من أوسع أوعية العلم في الأمة لم يحو إلا لبابه خالصاً من القشور كلها كان وقفاً على الخير المحض لكل متناول فكأنه وكأن مصنفاته الممتعة التي يتجلى فيها بعد نظره وغوره وإخلاصه وأخلاقه دائرة المعارف أو موسوعات العلوم بلغة غربية منتشرة لعهدنا حوت كثيراً من علوم البشر أو النافع الراجح منها وهي مسبلة على المطالعة في خزانة كتب إذا قلبت أي صفحة من صفحاتها تعود من تحديقك فيها وقد حفل وطابك بما طاب من ثمرات معارف الناس.
فهو ولا مراء أحد أفراد في هذه الأمة ما أظنهم يتجاوزون عدد الأنامل. هو ممن إذا ذكروا في مصاف رجال الأمم رفعنا بما كتبوا رؤوسنا وابتهجت بذكراهم نفوسنا. ناهيك برجل قال في وصف كتبه الأستاذ أبو الفضل ابن العميد الوزير العالم المشهور وقد جرى ذكر الجاحظ في مجلسه فغض منه بعض الحاضرين وأزرى به فسكت الوزير عنه فلما خرج الرجل قال أبو القاسم السيرافي وكان حاضراً: سكت أيها الأستاذ عن هذا الرجل في قوله