التسمم بالتبغ هو أيضاً من الجراحات الاجتماعية التي صيرها هذا العصر نغارة. فالتبغ هو ذاك المسلي الذي يستعمله الجندي والملاح والزارع والصانع والعامل والعالم. يدفع ببعضهم إلى العمل ويسكن في بعضهم شيئاً من انفعالات النفس. ومن العجيب أن الأوربي الذي ذهب إلى أميركا يبث نور المدينة في عقول برابرتها قد أسفَّ إلى الأخذ عنهم فاقتبس منهم عادة التدخين مع علمه أنهم دونه في الذكاء والعلم. فقد نقل الإسبانيون سنة ١٥٦٠ عادة التبغ من المكسيك إلى لشبونة ومنها انتقلت إلى الديار الأوربية فأولعت النفوس بها. حتى إنه ليصرف على التدخين وما يلحقه من الثقاب (الكبريت) والعلب والغلايين والورق والأنابيب مبالغ جسيمة لو صرفت في تطهير المدن الكبرى وترقية المعارف العمومية وإنشاء دور لعجزة العملة لأتت المجتمع الإنساني بفوائد لا تقدر ولئن كان الضرر المشاهد من التدخين أقل من ضرر المسكر فإن مما لا يختلف فيه اثنان أن إدمان التدخين يحدث اضطرابات في القلب وضعفاً في البصر قلما تشفى إلا بالإقلاع عن هذه العادة السيئة.
والأمراض الزهرية إحدى رذائل هذا القرن فإنها هاجمت طبقات المجتمع كله من الفتى اليافع إلى الشيخ الهرم ومن مرضع سليمة إلى طفل ورث عدواه من أبيه وأمه فهواشد فتكاً في إفساد الجنس البشري من عامة الأوبئة التي انتابت المجتمع في أدوار الحقب. ومادام الجهاد في الحياة يتزايد كل آن وطرق العيش تتصعب فإن أسباب الزواج الشرعي تقل ويقل الراغبون فيه بل ومادامت الخدمة العسكرية لا مناص منها في سن مخصوصة من أيام الشباب فإن من العبث منع أسباب الفجور ليضرب دون هذا المرض الوبيل بأسداد منيعة.
وزاد انتشار السل الرئوي في الخمسين سنة الأخيرة فأصيبت به طبقات الناس على اختلافهم في البلاد المتمدنة وقد شوهد أنه يفعل في الغالب بالجند في ثكنهم والعاملين في معاملهم والسجناء في حبوسهم لأن الاختلاط الشديد هو من أهم أسباب انتقال العدوى والمصابون بالسل هم بين العشرين والخمسة والعشرين من عامة الوفيات في سائر الأمراض ويصيب الشبان والشيوخ غالباً. ومما يساعد على كثرة فتكه ماعدا انتقاله بالوراثة سوء العناية بالصحة كما هو المشاهد في البلاد الكبيرة فإن الأقدام تزدحم في الأحياء الضيقة والبيوت المظلمة التي لا تنفذ إليها الشمس ولا يتجدد فيها الهواء فتحدث في