ليس العلم وقفاً على أمة معينة ولا على أهل دين خاص ولغة خاصة بل العلم مشاع بين سكان الأرض يقتبسه الراغبون فيه ممن عرفوا غناءه لهم وفائدته لقيام جامعتهم وإعلاء كلمتهم كما أن الحضارة تنتقل من يد إلى يد وتأخذها الأمة المتحضرة عن جارتها أو ترثها عن أختها الذاهبة. ولذلك لم تستغن أمة في النقل عن غيرها ما يعوزها من علوم البشر على اختلاف أنواعها نقلاً ينتفع به أهل جيلها وقبيلها ويؤثر الأثر المطلوب في العقول. فقد نقل الفرس علومهم عن جيرانهم الهنود ونقل الرومان عن اليونان ونقل اليونان عن المصريين ونقل العرب عن اليونان والفرس ونقل الإفرنج عن العرب واليونان والرومان وغيرهم من أمم الخليقة. وقد مست الحاجة في هذا النقل إلى ترجمة أهم كتب أولئك الأقوام في الصناعات والديانات وعلوم الحكمة والطب والرياضيات والشرائع والتاريخ والأدب.
هذا الكثير من العلوم التي نراها لعهدنا وكتبها التي لا تحصى في كل ضرب من ضروب المعرفة النافعة لسعادة الخلق هي ولا جرم من عمل القرون المتطاولة هي زبدة تجارب صفوة بني آدم وأغض ثمرات عقولهم منذ ألوف من السنين تكونت فيها أمم كثيرة ثم بادت وقامت مدنيات تذكر ثم سقطت منها ما نقل إلينا ومنها ما لم ينقل. فكما أن اللغات والشعوب ترجع إلى أصول قليلة تفرع عنها هذا العدد الدثر من الأجيال المعروفة في قارات الكرة الأرضية الخمس فكذلك كانت العلوم قليلة وما برحت تنمو بنمو الأيام والأزمان. وحال النقل من حيث القلة والكثرة حال العلوم والأمم حذو القذة بالقذة.
ولما تم للعرب النصر وتبسطوا في مناحي الملك والسلطان وانتشرت لغتهم في معظم الأصقاع التي افتتحوها انصرفت عنايتهم إلى تنظيم بلادهم بنظام الأمم التي سلفتهم إذ أيقنوا أن ليس كالعلم كفيلاً ببقاء أمة وضامناً لها سعادتها والعلم لا يتم إلا بالنقل عن أمة أخرى. وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه بتعلم لغة اليهود كما تعلم بعض الصحابة لغة الحبشة لما هاجروا إليها في بدء الدعوة الإسلامية. دع عنك من دخلوا في الإسلام من الفرس ومن تعلم من العرب لغة فارس. وهذا كان مبدأ النقل والتعريب وإن لم يؤثر عن هذا الدور كتاب ولا رسالة لأن الأمة كانت أمية ولم تكن دونت بعد أهم علم عندها إلا وهو علم الدين فأحر بها أن لا تنقل عن غيرها علوماً هي بالنسبة إليها ثانوية.
وأول كتاب نقل إلى العربية كتاب أهرن بن أعين وجده عمر بن عبد العزيز في خزائن