الكتب فأمر بإخراجه ووضعه في مصلاه واستخار الله في إخراجه إلى المسلمين للانتفاع به فلما تم له في ذلك أربعون صباحاً أخرجه إلى الناس وبثه في أيديهم وكان المنصور أول من عني من العباسيين بنقل شيءٍ من علوم الأوائل ثم مشى على أثره جعفر البرمكي وجماعة من صنائع الدولة إلا أن غرام المأمون بذلك كان من وراء الغاية.
قال القاضي صاعد بن أحمد الأندلسي أن العرب في صدر الإسلام لم تعن بشيءٍ من العلوم إلا بلغتها ومعرفة أحكام شريعتها حاشا صناعة الطب فإنها كانت موجودة عند أفراد منهم غير منكورة عند جماهيرهم لحاجة الناس طراً إليها فهذه كانت حال العرب في الدولة الأموية فلما أدال الله تعالى للهاشمية وصرف الملك إليهم ثبت الهمم من غفلتها وهبت الفطن من ميتتها وكان أول من عني منهم بالعلوم الخليفة الثاني أبو جعفر المنصور وكان مع براعته في الفقه كلفاً في علم الفلسفة وخاصة في علم النجوم.
قال ولما أفضت الخلافة إلى الخليفة السابع عبد الله المأمون بن هرون الرشيد تمم ما بدأ به جده المنصور فأقبل على طلب العلم في مواضعه وداخل ملك الروم وسألهم صلته بما لديهم من كتب الفلسفة فبعثوا إليه منها ما حضرهم فاستجاد لها مهرة التراجمة وكلفهم أحكام ترجمتها فترجمت له على غاية ما أمكن ثم حرض الناس على قراءتها ورغبهم في تعليمها فكان يخلو بالحكماء ويأنس بمناظرتهم ويلتذ بمذاكرتهم علماً منه بأن أهل العلم صفوة الله من خلقه ونخبته من عباده.
نعم بلغت عناية المأمون بالعلم والنقل التي لا فوقها وقد ادعى بعضهم أن عدد المترجمين والناقلين والمصححين الذين حشرهم إليه من أطراف مملكته كانوا ثلاثمائة رجل من مختلف الأديان والمذاهب أمرهم أن لا يجعلوا للتعصب عليهم سبيلاً وإن ينبذوا الجدالات الدينية ظهرياً لتكون اجتماعاتهم علمية صرفة. وقيل أنهم كانوا يجتمعون مرة في الأسبوع فتعرض المترجمات على أناس من أهل العلم والبصر بالعربية فيقرون سليمها وينبذون سقيمها. وعلى عهده كثر الاعتماد على النحت والاشتقاق والوضع لترجمة المصطلحات الطبية وغيرها من العلوم المادية وكان المأمون ينفق على المترجمين أكثر مما يصرفه غيره على ملاذه في بضع عشرات من السنين.
وبعد فإن الناس من لا يعدون من المؤلفين غير من يأتون بشيءٍ من عندهم ولو غثاً تافهاً