للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مثال الأمة الراقية]

جرت العادة أن تقتدي الأمم بعضها ببعض ولا سيما فيما فيه إعلاء كلمتها وتمام سعادتها فتطرس الأمم النازلة على آثار الأمم الناهضة. قال هنري ليشتنبرجه أحد أساتذة كلية باريز في خاتمة كتابه ألمانيا الحديثة ونشوئها ما تعريبه:

لم يكن لألمانيا في أوائل القرن التاسع عشر كيان يدل على أنها دولة عظمى بل كانت أشبه ببناء يتداعى والناس من حوله لا يعبؤن بما يجري له. فلم يكن هناك دولة يضخ أن تسمى ألمانيا بلا كان أمراء من الألمان منشقين على أنفسهم يتحاسدون وقلما يحرصون إلا على مطامعهم السافلة في الحكومة وهم أهل لكل تسفل لا يتحامون ارتكاب الخيانات على ضروبها للاحتفاظ بسلطتهم الثمينة وتقوية أمرهم وليس لهم من الكفاءة ما يستطيعون معه توجيه مطامعهم المنبعثة عن أناينتهم المجسمة نحو ما فيه نفع الأمة بل كانوا يؤهلون بالغريب ويحالفونه لقضاء مآربهم يعلنون الحرب على أبناء وطنهم إذا سما له أمل بحلب بعض النفع من غدرهم وخيانتهم. وبين ظهراني مثل هذه الأمة المنقسمة الضعيفة لا يرجى أن تقوم قائمة للحياة السياسية وأنى يكون لها ذلك ونظام الحكومة المطلقة فيها ضارب بجرانه وكثيراً ما يستحيل إلى استبداد يبيد الخضراء والغضراء والناس مع هذا خاضعون وخانعون حتى كادوا يقربون حد الرق والعبودية.

ابتعد الفلاحون وسكان المدن وأرباب الصنائع وأهل الطبقة الوسطى عن الاشتراك في الشؤون العامة واستسلموا لظلم الحكومة وطبقة الأشراف على ما فيه من النكد وهم ضعاف الحول والقوة لا قبل لهم برد عاديتهم عنهم ولم يعودوا يبالون بتة بالحياة الوطنية بل تنحوا إلى دائرة أشغالهم الخصوصية.

كل هذا الحياة الاقتصادية في الأمة ضيقة النطاق حقيرة الشأن والشعب مشتت مبعثر والبلاد فقيرة والمال قليل والصناعة تكاد تكون عدماً. فلم يبق للخروج من مأزق هذا الشقاء إلا مخرج واحد وهو تنمية العقل والصناعة فنزلت طبقة الخاصة المتعلمة إلى هذا الميدان وهبت هبة حماسية صالحة.

وفي تلك البلاد الألمانية المشتتة المغلوبة على أمرها التي كاد بوم الخراب ينعق فيها بما تواتر عليها من الحروب والغارات أزهر التهذيب الأدبي والفلسفي الذي ربما كان أجم سطور بحد الذي تفاخر به هذه الأمة. ودخلت ألمانيا من ذاك العهد في ميدان العمل وتخلت