ما رزق أحد من الشعراء حظوة كحظوة المتنبي في شعره وما خدم ديوانه. ولعل ذلك والله أعلم من أجل تلك الحكم الرائعة التي تخللت شعره. وما يخيل لي أن المتنبي بقي اسمه يردد على الأفواه كل يوم ألوفاً من المرات إلا بفضل حكمه وإلا فالمديح والنسيب الذي فيه يوجد مثله في دواوين غيره من الشعراء. اطلعت بالاتفاق على شرح لهذا الديوان لأبي الحسن علي بن أحمد الو احدي المتوفى سنة ٤٦٨ قال صاحب كشف الظنون فيه وهو أجمل ما وجدنا عليه من الشروح وأكثرها فائدة ليس في شروحه مثله.
قال فيه الشارح بعد البسملة والحمدلة والصلاة: أما بعد فإن الشعر أنقى كلام. وأعلى نظام. وأبعد مرقى في درجة البلاغة. وأحسنه ذكراً عند الرواية والخطابة. وأعلقه بالحفظ مسموعاً. وأدله على الفضيلة الغريزية مصنوعاً. وحقاً لو كان الشعر جوهراً لكان عقياناً. أو من نبات لكان ريحاناً. ولو أمسى نجوماً لزاد ضياؤها. أو عيوناً لما غار ماؤها فهو ألطف من در الطل. في أعين الزهر إذا انفتحت الرياض غب المطر. وأرق من دمع المستهام. ومن رقرق بماء الغمام. وهذا وصف أشعار المحدثين الذين تأخروا عن الجاهلية. وعن نأنأة الإسلام إلى أيام ظهور الدولة العباسية. فإنهم الذين أصبح بهم الشعر عذباً فراتاً بعد ما كان ملحاً أجاجاً. وأبدعوا في المعاني غرائب أوضحوا بها لمن بعدهم طرقا فجاجاً. حتى أصبحت روضة الشعر. مفتحة الأنوار يانعة الثمار. مفتقة الأزهار. متسلسلة الأنهار. فثمرات العقول منها تجتبى. وذخائر الكتابة عن غرائبها تقتني. وكواكب الآداب منها تطلع. ومسلك العلم من جوانبها يسطع وإليها تميل الطباع. وعليها تقف الخواطر والأسماع. وإليها ينشط الكسلان وعند سماعها يطرب الثكلان. لما لها من المزاين والتدبيج. وسطوع روائح المسك الأريج.
وبعد أن أورد حديث أن من الشعر لحكمة وقول عائشة الشعر كلام فمنه حسن ومنه قبيح فخذ الحسن ودع القبيح قال: ولقد رويت أشعاراً منها القصيدة أربعون ودون ذلك وأن الناس منذ عصر قديم قد أولوا جميع الأشعار صفحة الأعراض مقتصرين منها على شعر أبي الطيب المتنبي نائين عما يروى لسواه. وأن فاته وجاوز في الإحسان مداه. وليس ذلك