تداولت أيدي المطالعين في الشهر الأخير كتابين شغلا جانباً عظيماً من ساعات فراغهم وحلا محلاً حسناً من قلوبهم وأكثرت الصحف من ذكرهما والحث على اقتنائهما حتى شعر بنفسه بالنوق إليهما كل من لم يكتب له العثور عليهما وليس في أمرهما مجال الغرابة فإن كتابين أحدهما يضم بين دقتيه ما اتفق لأدباء الشام وفلسطين من الشعر والخطب في استقبال أحد عظماء الدولة وكبار رجالها أنور باشا والثاني يستوعب أنباء رحلة وفد علمي سير بأمر القائد الكبير أحمد جمال باشا من ربوع الشام إلى عاصمة خلافة الإسلام، لهما كتابان جديران بما لقياه من إقبال القراء والباحثين حقيقان بأن يكون لهما الوقع الحسن والتأثير الأدبي لدى عامة أفراد الأمة أديبها وعالمها وأخصائيها وجغرافيها وسائر طبقاتها من مؤرخ يحفظ بهما حديث رحلتين أفردلهما مكان رحيب في صدر التاريخ، وشاعر تتمثل له فيهما صورة مجسمة عما بلغ إليه الشعر في دور صولة السيف وجفاف اليراع وكاتب يلذه ما حوياه من ضروب التفنن في الإنشاء، وخطيب يروقه سماع ما فاه به خطباء قطره في المواقف المختلفة فهو يصفق للمجيد ويتحسر على البليد، وهكذا فلكل مفكر في خلال الرحلتين نظرة يلمحهما بها وكلمة يقولها بهما، أما أنا فمن أولئك الذين استهوى حب الإجادة في المنظوم أفئدتهم واستولى الولوع بالشعر على قلوبهم فإن أردت الكلام فنكتة أدبية أمليها أو ملاحظة شعرية أرويها تاركاً ما عدا ذلك من مباحث الكتابين إلى المشتثلين به وها أنا ذا أشرع ببيان ما عثرت عليه فيهما من الحسن الجيد أو المنتقد الذي لم أجد بدأً من إظهار ما خالج الضمير من البوح به على أني لا أنجس الناس أشيائهم ومعاذ الله أن أفعل وفي شعراء الرحلتين عدد من أئمة الأدب وجهابذته وذوي المكانة الرفيعة والمنزلة السامقة من ناظمي قلائده وناثري فرائده قد يحرجهم الموقف ويضطرهم الحث على الإسراع إلى تجاوز بعض الحدود في التراكيب والقواعد أو التصور والخيال ولا أراهم بملومين اللهم ولا أراني ملوماً إذا أشرت إلى الشيء اليسير من هذا النوع خدمة للأدب واللغة والعاملين على الرفع من شأنها. . .
أول ما يبدهك من الشعر في الرحلة الأنورية قصيدة غراء أعجبني منها قول ناظمها (ص ٣١):
فليعلم القوم الذين تجبروا ... أنا القضاء على الذين تجبروا