بينا كنت خلال العام الفارط أرسل رائد الطرف في بعض المخطوطات العربية القديمة عثرت على كتاب صغير الحجم جميل الخط عتيقه فتأملته فوجدته لمؤلف تونسي معدود من البلغاء. وإذا كان لي ولوع شديد بالاطلاع على مآثر الأدباء من بني وطني تعلقت رغبتي بتعريف هذا التصنيف. بيد اني لما أخذت أتلو رشيق معانيه وأحلل دقائق مبانيه وجدت نقصاً فادحاً بين أوراقه أفسد عقد جمله فحل بي من ذلك قلق عظيم. ثم بعد مدة وقعت في فهرست القسم العربي من مكتبة الاسكوريال بجزيرة الأندلس على اسم مقامة تحت عدد ٥٣٦ منسوبة إلى أبي عبد الله محمد بن شرف القيرواني فانجلى خاطري وبادرت في الحال لطلب نسخة منها من بعض زملائي المستشرقين. فلما وافتني صورتها وطابقتها بما لدي عاودني سروري الأول وقوي عزمي إذ كانت القطعة الأندلسية مطابقة للقسم الأول من النسخة التونسية بزيادة ما نقص. فأسرعت حينئذٍ إلى النسخ وأتممت هاته بتلك حتى كمل والحمد لله ما كنا نرغبه وهو ما نقدمه اليوم للقراء الكرام.
ومن المناسب أن نذكر شيئاً عن الأصلين اللذين أخذنا عنهما. فالأول وهي النسخة التونسية تشتمل على ستين صفحة شرقية يلوح منش كل خطها أنها من القرن السابع لكنها صعبة القراءة لانطماس الأحرف ودثور كتابتها دع عنك ما لحق الورق من العث الذي أهلك جانباً وافراً منها.
أما القطعة الأندلسية التي أكملنا بها ما ضاع من التأليف فهي تحتوي على ثماني عشرة صفحة صغيرة الحجم أندلسية الخط قديمة النسخ كما يتبين ذلك من التاريخ الذي وضعه بعض المطالعين في الصفحة الآخرة حيث قال: طالعته في موفي سنة خمس وخمسمائة وبهذا يستدل على أن هاته القطعة كتبت زمن المؤلف مدة إقامته بالأندلس (حوالي سنة ٤٥٥) أو قريباً من عهده. ومهما كان الحال فهي أقدم من أختها التونسية إلا أنها أخصر ولا تشمل إلا على المقامة الأولى.
ويلوح لي أن مؤلفنا قصد بتدوين هذه الرسائل معارضة كتاب العمدة الذي وضع زميله ومعاصروه الحسن بن رشيق القيرواني كما سنبينه في ترجمته. إلا أن الرسائل المعارض