من التطاول على مقام الشعر العربي أن أحاول الإحاطة به في محاضرات ثلاث.
ولكنكم قد رأيتم جميعاً هذه الكتب الصغيرة الموجزة التي يستدل بها المسافرون في سياحاتهم يفتح السائح دليلة فيجد المؤلف قد تكفل بأن يريه باريس وعجائبها وما حوت من كنوز في خمسة أيام. ومصر ونيلها وأهرامها وقبورها ومعابدها ومسلاتها وما أبقت الأدهار فيها في اسبوع من الزمان. فيجري وراء دليله الصامت الناطق ويعمل برأيه فيعييه الجري ويتولاه التعب ويقطر العرق من جبينه ولا يكون لديه مجال للتأمل والتفكير فيما يتجلى أمامه من العبر وما يقع عليه بصره من عظات القرون ولكنه مع ذلك يرى من المشاهد ما يترك في ذهنه أثراً قديماً وما يكفي لتكوين فكر عام لديه وتتولد عنده من الأثر ويطيل الوقوف أمامها يسائلها عما مر بها العصور الخوالي فكأنما سفرته الأولى تمهيد لسفرته الثانية. . . . . .
فغايتي الآن أن أطير معكم فوق ربوع الشعر العربي. نطير طيراناً مكتفين بالتحليق في ممائه دون أن تطأ أرجلنا أرضه فنمتع النظر معاً بمرآها البهيج ونستنشق هواءها العليل البليل حاملاً أريج بلاد العرب وشذاها العطري. فهل لكم بعد هذا التطواف أن تجوسوا تلك الربوع الفائنات التي تمر أمام عيوننا مسرعة تجري كالريح فلم تروا منها سوى شواهقها وأن تشعروا بالحنو عليها والرغبة في التجول فيها لتستريحوا في وديانها وتشربوا من عيونها وغدرانها وتقطفوا من يانع ثمارها وتترنحوا بشذا أزهارها العطرة وقد أسكرتكم محاسنها.
وأول سؤال يخطر على البال هو: ما هو الشعر العربي قال بعضهم في تعريفه إنه صورة ظاهرة وفي هذا التعريف من حلاوة التعبير وفي سمو المعاني ما فيه لأن الشعر يكون إذ ذاك مظهراً لصور حاسة وعواطف حقيقية لا تصنع فيها ومجموع حقائق لا أكاذيب
وعرفه غيرهم بصوت أحلى من ذلك وأليق بالشعر فقال:
إن الشعر أنقى كلام وأغلى نظام وأبعد مرقى في درجة البلاغة وأحسنه ذكراً عند الرواية والخطابة وأعلقه بالحفظ مسموعاً وأدله على الفضيلة الغريزية مصنوعاً وحقاً لو كان الشعر جوهراً لكان عقيانا، أو من النبات لكان ريحانا، ولو أمسى نجوماً لزاد ضياؤها أو عيوناً لما غار ماؤها فهو ألطف من در الطل في أعين الزهر إذا تفتحت عيون الرياض