غب المطر وأرق من أدمع المستهام ومن الراح رقرق بماء الغمام (من شرح ديوان المتنبي للواقدي)
فالشعر هو ريحانة النفوس ومزيل الهموم وديوان الحكمة ومصدر الخير والشعاع الساطع الذي يجذب الأنظار وتحوم حوله النفوس. بل هو عنوان المجد الخالد ورائد البلاغة وحجة اللغوي ومالك القلوب والدافع إلى جلائل الأعمال والمحرك للعزائم والرسول الذي يحمل أدق الرسائل وأرق العبارات.
وقد عرف ابن خلدون الشعر بأنه الكلام المبني على الاستعارة والأوصاف المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي مستقبل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وما بعده الجاري على أساليب العرب المخصوصة
وهذا التعريف معول من قديم الأزمان ومن واجبات كل شاعر حريص على هذا الفن أن يتحراه في نظمه ويعمل به وإلا زالت عنه صفة الشاعرية. وعلى ذلك فالشاعر لا يكون جديراً بهذا الاسم إلا إذا صاغ عبارة في قالب خيالي وراعى أحكام الوزن واتبع فوق ذلك القواعد التي وصفها الأقدمون لتنسيق الشعر وأحكامه. فكأنما الحرية والتلاعب والخروج عن المألوف لا مجال لها في هذه المملكة مملكة الشعر التي كلها خيال في خيال والتي يهيج الفكر في أرجائها دون قيد ولا حرج. فإن صناعة الشعر خاضعة في شكلها بل وفي موضعها إلى حد ما لقواعد ثابتة لا بد من التقيد بها يظهر لنا إذن كأنه آلة موسيقية متناسقة الأنغام والتواقيع ولكنها خيالية من التنويع أما الشعراء فهم كالبلبل المغرد يحلو تغريده ويرق صوته ولكن نغماته هي هي في الصباح وفي المساء. . . . .
وما دام هذا العيب هو العيب الوحيد في شعرنا فلنشهد أن شعراءنا عنوا على الدوام بالألفاظ والعبارات أكثر مما عنوا بالمعاني وهمهم أن يؤدوا المعنى الواحد بعبارات مختلفة متعددة رنانة بديعة الأسلوب. وقد شبهوا المعنى بالماء - وهل كان لهم أن يشبهوه بالخمر وهي من المحرمات - والشعر بالإناء وقالوا أن الماء ماء على الدوام ولكن العبرة بالإناء فكلما أجاد الصانع إتقان صنع هذا الإناء وحلاه بالنقوش والزخاريف وأبدع في صناعته وأبرزه تحفه تلفت الأنظار كان أعظم شأواً في عالم النظم وأجود شعراً وأرفع مكانه ولهذا ترى الشعراء على الدوام يسعون وراء الألفاظ البديعة ويتنافسون في صوغ العبارات