بلغت بغداد في الحضارة أعلى درجاتها إبان التمدن الإسلامي وكانت عاصمة العلم ومبعث أشعة الحكمة حتى في عصور تدنيها أيام ضعف سياستها وأصبح حكم العباسيين فيها اسمياً ولم تبرح تنفخ فيها روح النمو والرقي التي بثها فيها خلفاء القرن الثاني والثالث فكان العادة أو قوة الاستمرار حكمت أن لا يكون القرن الرابع والخامس والسادس والسابع دون ذينك القرنين إلا قليلاً. وظلت هذه العاصمة على علاتها أرقى من قرطبة والقيروان ومصر ودمشق وسمرقند وخراسان وغيرها من أمصار الحضارة وقواعد العمل على ما بذل زعماء تلك العواصم من العناية في مضاهاة دار السلام وقبة الإسلام.
ولقد كانت المدارس إحدى العوامل الكبرى في ذاك الترقي ويكاد الفضل يرجع إلى بغداد في إحداثها على هذا الطرز المألوف وإن بقيت الأمة زمناً تتلقى علوم الدنيا والدين في حلقات المساجد والمجامع الخاصة. ولقد استاء علماء ما وراء النهر لما بلغهم توفر الخلفاء على بناء المدارس في بغداد وأقاموا للعلم مأتماً تفادياً من ابتذاله وخشية أن تصبح الغاية من الدراسة دنيوية محضة غايتها جر مغنم واجتلاب ديناً عريضة وأسفوا أن رأوا بعض رجال العلم أخذوا يتناولون رواتب لقاء دروس ينفعون بها الأمة وكانوا وأجدادهم من قبل يلقونها بلا عوض ولا عرض ينالونه.
وكأن الله خص القرن الرابع بأن قامت فيه أعظم كليات المسلمين اليوم إلا وهو الأزهر في القاهرة الذي بناه القائد جوهر كما خص القرن الخامس بأن وفق نظام الملك وزير السلاجقة لتأسيس المدرسة النظامية سنة ٤٥٩هـ ببغداد ووفق المستنصر بالله العباسي أيضاً أن أسس مدرسته المستنصرية في أوائل القرن السابع ببغداد. ولما كانت النظامية والمستنصرية عامرتين بضروب العلم غاصتين بالطلاب والأساتذة لم يكن الأزهر يذكر في جنبهما. ولكن دالت الأيام ودرست معالم هاتين الكليتين العظيمتين وكتب البقاء لهذه المدرسة المصرية. ولذلك أحصر الكلام فيهما الآن فأقول:
أسس نظام الملك مدرسته النظامية وسط الجانب الشرقي من دجلة وقسمها إلى مقاصير كثيرة خص كل فرع من فروع العلوم الدينية والدنيوية ببعضها وجعل فيها غرفاً كثيرة يأوي إليها الطلبة والأساتذة هذا عدا ما هناك من أبهاء ومنتديات وقاعات وبستان فسيح ومصلى وأماكن للاستراحة وجميع ما يلزم لدار علم مثلها من سائر موافق الحياة كالمطبخ