الحمد لله رب العالمين وصلواته على نبينا محمد وآله الطاهرين. قال عبد الله بن المقفع: وجدنا الناس قبلنا كانوا أعظم أجساداً وأوفر مع أجسادهم أحلاماً وأشد قوة وأحسن بقوتهم للأمور إتقاناً وأطول أعماراً وأفضل بأعمارهم للأشياء اختباراً فكان صاحب الدين منهم أبلغ من أمر الدين علماًُ وعملاً من صاحب الدين منا وكان صاحب الدنيا على مثل ذلك من البلاغة والفضل ووجدناهم لم يرضوا بما فازوا به من الفضل لأنفسهم حتى أشركونا معهم فيما أدركوا من علم الأولى والآخرة فكتبوا به الكتب الباقية وكفونا به مؤونة التجارب والفطن وبلغ من اهتمامهم بذلك أن الرجل منهم كان يفتح له الباب من العلم والكلمة من الصواب وهو بالبد غير المأهول فيكتبه على الصخور مبادرة منه للأجل وكراهية لأن يسقط ذلك على من بعده. فكان صنيعهم في ذلك صنيع الوالد الشفيق على ولده الرحيم بهم الذي يجمع لهم الأموال والعقد إرادة أن لا تكون عليهم مؤونة في الطلب وخشية عجزهم إن هم طلبوا فمنتهى علم عالمنا في هذا الزمن أن يأخذ من علمهم وغاية إحسان محسنينا أن يقتدي بسيرتهم وأحسن ما يصيب من الحديث محدثنا أن ينظر في كتبهم فيكون كأنه إياهم يحاور ومنهم يستمع غير أن الذي نجد في كتبهم هو المنتحل في آرائهم والمنتقى من أحاديثهم ولم نجدهم غادروا شيئاً يجدوا بليغٌ في صفة له مقالاً لم يسبقوه إليه لا في تعظيم لله عز وجل وترغيب فيما عنده ولا في تصغير للدنيا وتزهيد فيها ولا في تحرير صنوف العلم وتقسيم أقسامها وتجزئة أجزائها وتوضيح سبلها وتبيين مآخذها ولا في وجوه الأدب وضروب الأخلاق فلم يبق في جليل من الأمر لقائل بعدهم مقال وقد بقيت أشياء من لطائف الأمور فيها مواضع لصغار الفطن مشتقة من جسام حكم الأولين وقولهم ومن ذلك بعض ما أنا كاتب في كتابي هذا من أبواب الأدب التي يحتاج إليها الناس.
يا طالب الأدب اعرف الأصول والفصول فإن كثيراً من الناس يطلبون الفصول مع إضاعة الأصول فلا يكون دركهم دركاً ومن أحرز الأصول اكتفى بها عن الفصول وإن أصاب الفصل بعد إحراز الأصل فهو أفضل.