كل فن من الفنون المعروفة اليوم نشأ نشوءً تدريجياً وانتقل ينمو من البسائط إلى المركبات وقد كانت مبادئ العلوم جميعها موجودة في عقول البشر وهم بعد في طور الهمجية ثم أخذت تلك المبادئ تنمو وتزيد بالاستدلال والاستقراء إلى أن انتهت في طريق تكاملها إلى الحالة التي نجدها عليها في هذا الزمان. وقد كانت الحاجة أماً للاختراع والاكتشاف وكثرة مطالب الناس في مجتمعاتهم ومقتضيات عمرانهم كانت تدعوهم إلى التوسع في ما لديهم من المعرفة وتحملهم على التجربة والقياس فوطدوا أساس العلم الذي وضعه لهم العقل ورفعوا عليه البناء الذي أنشأه لهم الاختبار حتى شخص إلى عنان السماء وأصبح اليوم يغيب البصر في بعد مداه وترامي أطرافه وقسمه القائمون به إلى فروع كثيرة اختص بكل فرع منها فريق من العلماء الأعلام وأخذوا على أنفسهم الاحتفاظ به والزيادة فيه فكان ما نراه اليوم من المعلومات في كل فن خلاصة عصور كثيرة مر بها الإنسان وعمل عقول جمة تعاقبت عليه الواحد بعد الواحد. من ذلك علم الهندسة الذي نحن في صدده في هذه المقالة التي كتبناها لقراء المقتبس ونحن على ثقة أننا لم نأت إلا على نزر من غزر ووشل من بحر من أسماء الجهابذة الأعلام الذين أنشأوا هذا الفن وتعاونوا على إبلاغه حده في هذا العصر.
الهندسة علم يبحث في أوضاع الخطوط المستقيمة والمنحنية وفي الزوايا والسطوح والأجسام مع النسب التي بين المقادير وهي أقسام منها الهندسة البسيطة للسطوح والمجسمات وهي تبحث في صفات الخطوط القياسية والسطوح المستوية مع ما تحيط به من الأجسام وينطوي فيها أبحاث الخطوط والزوايا والمثلثات والمضلعات والدائرة والكرة مع الأجسام المحاطة بسطوح قياسية مثل المكعبات والأهرام وغيرها. والهندسة العالية وهي التي تبحث في المنحنيات الحاصلة من قطع المخروط والأشكال الشلجمية والذهلولية. ومنذ عهد غير بعيد ارتقت الهندسة العالية ارتقاءً باهراً وتفنن العلماء في إدخال الطرق الجبرية لحل القضايا الهندسية وتوسيع ما يعرف عندهم اليوم بالهندسة الحلية أو التحليلية. ومن أقسام هذا الفن الهندسة الوصفية أو الرسمية وهي عبارة عن توسع في معالجة الأظلال العمودية أو المرتسمات الهندسية ورسم أشكال الأجسام على السطوح المستوية وهذا القسم من الهندسة يحتاج إليه كثيراً في صناعة البناء وإقامة القباب والجسور