قال الحكيم فانديك في أحد كتبه الهندسة قسم من التعليميات موضوعة المقدار وهو كمٌّ ذو امتداد أي كل ما له واحد من ثلاثة أشياء وهي الطول والعرض والعمق ويقال لها الأبعاد الثلاثة. ولذلك يكون كل من الخط والسطح والمجسم مقداراً دون الحركة فإنها وإن كانت كماً لا تعد مقداراً إذ ليس لها شيءٌ من الأبعاد المذكورة وهو تعريف محكم لهذا الفن اخترنا إلحاقهُ إلماماً بأطراف البحث.
قلنا أن الهندسة مثل غيرها من العلوم بدأت بالبسائط وتدرجت إلى المركبات ومدارها أوليات بسيطة وحقائق مدركة بالبداهة مثل قولهم الكل أعظم من جزئه والأشياء المساوية لشيءٍ واحد هي متساوية والكل يساوي مجموع أجزائه وأمثال هذه من الحقائق المفهومة بدون برهان وغير المفتقرة إلى إقامة الدليل. وهذه الأوليات هي أساس فن الهندسة وعليها مداره وهي قد أدركها الإنسان منذ ظهوره وانسلاخه عن العهد الحيواني. وأول رجل استعان بشبره أو بقدمه أو بإصبعه أو بذراعه أو بباعه أو بقامته أو بخطوته أو بسهمه أو بنشابة تناولها من الأرض وقاس بها طول طريقه أو عرض كهفه أو محيط جذع شجرته أو ارتفاع جداره يكون هو المهندس الأول الذي ظهر بين الناس. وكما يستحيل علينا اليوم أن نعرف البادئ بعلم الحساب وواضع الأعداد وقواعدها الأولى كذلك يستحيل أن نعرف البادئ بالقواعد الهندسية ونكتفي بالقول أنها وجدت منذ وجد العقل ونمت معه مصاحبة لنمو العمران وارتقاء تمدن الإنسان. ويرجح الباحثون أن المصريين هم أول قوم دققوا في المقاييس وعينوا بعض الأشكال الهندسية مثل المربع والمثلث والدائرة ومسحوا الأرض ودونوا في أطوالها وعروضها جداول وسجلات حفظت في دار الملك ورجع الناس إليها عند الحاجة. وذلك أنهم كانوا في أول أمرهم يقسمون الحقول بينهم ويقيمون عليها تخوماً من الطين فيعدو عليها النيل عند فيضانه ويذهب بها فتضيع الحدود والفواصل ويضل الفلاحون أرضهم فدعا رعمسيس الثاني في القرن الرابع عشر قبل الميلاد جماعة العلماء وأمرهم بالتفتيش عن طريقة يخلصون معها من هذا الارتباك وتكفيهم شر المنازعة على التخوم كل سنة فمسحوا الحقول المستثمرة ووضعوا قواعد مسح المربع والمستطيل من السطوح واستخدموا الزوايا والأقواس في تعيين الحدود وإقامة الفواصل وألفوا كتباً وقسموا