يلد الإصلاح بادئَ بدءٍ غريباً لا يأنس به إلا ذوو الاستعداد الفطري للمبادئ العالية وأبناء العلم والتهذيب من رجال الأمة والبقية منهم يناهضونه إما بدافع جهلهم وتعصبهم أو لعدم انطباقه مع ما ينزعون إليه من التقاليد التي وجدوا عليها آباءهم ولهذا تعترضه قبل أن يدرج من عشه قوتان متناقضتان: الواحدة تسعى لإنمائه والأخرى تعمل على تلاشيه ويساعد الثانية في الغالب مال وخول في ملك ضخم البنيان وجاء منبسط الظلال. . .
بين هاتين القوتين تشهر حرب شعواء يضطرب لها فلك الإصلاح ولا بد أن تنجلي وقد أزهق الحق الباطل لأن القوة الحقيقية بجانبه. ولقوة الحق حركة كبرى في ميدان تنازع البقاء.
إلا وأن أنصار الباطل كانوا وما زالوا في كل عصرٍ ومصر يوقظون الفتنة ويضرمون جذوة الثورة فيقومون بدعوى الغيرة على الدين مرة وخدمة النفع العام تارة أخرى وما يريدون بذلك كما يشهد الحق إلا منافعهم الشخصية فهي قبلة آمالهم التي يولون شطرها وكعبة أميالهم التي يسوقون نحوها مطايا همهم وهممهم.
وليس أضر شيئاً على العلم والدين من هؤلاء فبمثلهم كسد سوق العلم وراجت بضاعة الجهل المزجاة وهم بما يختلقونه من الأوهام مثلوا الدين بأقبح صورة مشوهة يفر منها الناظر فرار السليم من الأجرب وفسحوا للدين مجالاً واسعاً أمام الأغيار فأخذوا يسلقونه بالسنة حداد وينزلونه في غير المنزلة التي وضعها السلف الصالح أيام كانوا على بيضاء نقية لا يضرهم من خالفهم إذا كانوا هم المهتدين.
منيت الأمم الإسلامية جمعاء بمثل هؤلاء منذ ثلاثة عشر قرناً أو ما يزيد. بيد أنه مع وجود هذه الطغمة بين ظهرانيهم وارتفاع جلبتهم وضوضائهم وعملهم على إطفاء شعاع الأماني الذهبية في مهب تلك العواصف لم تعدم رجالاً توفرت على الأخذ بناصر الحق وسلبت قرارها رغبة فيشد أزره ممن تمحضوا للعلم الخالص واغترفوا من معينه وشلا فكانت القوة بجانبهم ينافحون بها أعداء العلم الألداء ويكافحونهم والغلبة لهم وإن تألبت عليهم الجموع الكثيفة وتحلقت أمامهم الصفوف كالبنيان المرصوص ممن تجمعهم جامعة الجهل تحت لواء الحسد اللئيم.
شهد شيخنا التاريخ منذ نشأ الفكر البشري هذه الأعمال البربرية ولم تزل صفحاته ندية بعد