فلم يجف ما أريق من الدماء في سبيل نصرة الحق ولم يتبخر ما أذرف من الدموع الصافية المصدر والمورد على تلك العقول الرصينة التي بينما ترصد فضاء السماء الفسيح إذا بها تفحص أعماق هذه الأرض وتجتهد في استكناه أسرار الحياة المطوية طي كتل تلك الطبقات الصماء. وها هو قد حشد في صدره ألوفاً مؤلفة ممن ذهبوا ضحية الجهل والحسد ما لو جمع وأُفرد بمؤَلفات خاصة لأخرجت للناس مجلدات ضخمة في محكمة التفتيش الإسلامية الكبرى.
وليس بالنزر القليل ما نال الأئمة المصلحين من النكبات التي يسود لها وجه الإنسانية فكم كفر من هو أشد تمسكاً بدين الله وأتوا على من هو أعظم اعتصاماً بحبله المتين وحكم بالزندقة على من كان يحارب الدهريين وضلل من كان يجاهد في سبيل الشرك واضطهد من كان يعمل فكرته للاجتهاد والعمل في كتاب الله وسنة رسوله.
ويا ليتهم وقفوا عند هذا الحد فلم يتخطوا دائرة الإنسانية بتمثيلهم عباد الله المصلحين أقبح تمثيل وضربهم بالأسواط حتى تشل الأطراف أو تعتل إحدى الأعضاء فتفقد وظيفتها وسلخهم جلودهم وهم أحياء مما لم يعهد نظيره إلا بين ظهراني الأمم العريقة في التوحش والعمجية.
وأمامي الآن كثيرٌ من أمثال تلك الحوادث في بطون عدة من التواريخ التي تضم تراجم مشاهير المشارقة والمغاربة آتي على شيءٍ منها مقتصراً على رجال الفريق الأول ممن ذاقوا الأرم ولقوا من معاصريهم إلا لاقي لقآء بث فكرةٍ إصلاحية أو القيام بمشروع جديد ليعلم أن التاريخ هو المحشر الذي ينسل إليه الناس من كل حدب وأنه لا يفلت أحداً دون أن يناقشه الحساب:
هذا مالك بن أنس سعي به إلى جعفر بن علي بن عم أبي جعفر المنصور فدعا به وجرده وضربه سبعين سوطاً ومدت يداه حتى انخلع كتفاه وذلك جزاء قوله الحق حين سئل عن مبايعة محمد بن عبد الله بن حسن وقولهم له: إن في أعناقنا مبايعة أبي جعفر فقال: إنما بايعتم مكرهين وليس على مكره يمين فأسرع الناس إلى محمد فسعى به فضرب لذلك.
قال صاحب الفلاكة: ثم لم يزل بعد في علو ورفعة كأنما تلك السياط حلياً تحلى بها. وهذا أبو حنيفة النعمان الفقيه الكوفي ضربه يزيد بن عمر بن هبيرة الفرازي وكان أمير