المخصي هو الذي يتفرد بدراسة فن واحد من أخصى الرجل إذا تعلم علماً واحد والنتفة (كهمزة) من ينتف من العلم شيئاً ولا يستقصيه قال في التاج: وكان أبو عبيدة إذا ذكر له الأصمعي يقول ذاك الرجل نتفة قال الأزهري: أراد أنه لم يستقص كلام العرب إنما حفظ الوخز والخطيئة منه أي القليل. فالأخصاء هو موضوع بحثنا هنا يتوقف عليه نجاح العلم وارتقاؤه ولا يقال عن أمة أنها مرتقية في علومها إلا إذا كثر فيها الأخصائيون في كل علم من علوم الحياة والاجتماع وكل من تفردوا في الغالب وطار ذكرهم في الآفاق وتناقلت أعمالهم الأجيال بعد الأجيال والعصور غبَّ العصور وكانوا بلا مراء من أهل الأخصاء صرفوا وكدهم إلى معاناة علم واحد والنظر في دقائقه وخفاياه ودرسه من عامة أطرافه.
وَهِم قوم أن الأخصاء في العلوم يرتجل ارتجالاً فالمهندس يتعلم الهندسة وحدها والأثري يدرس علم الآثار والمؤرخ التاريخ والكيماوي الكيمياء والطبيعي الطبيعيات والفلكي الأفلاك فيبرزون وترتقي مداركهم. ولكن دل تاريخ العلم في الأمم القديمة والحديثة على أن لا يخصي في علم إلا من سبق له أن شارك في علوم كثيرة ولو مشاركة بسيطة لأن للعلوم علاقة بعضها ببعض كعلاقة البشر بعضهم ببعض فكما أنه لا يتيسر النفع لأمة أن تبقى وراء تخومها منعزلة عن جاراتها فكذلك العلم الواحد وهو ثمرة عقول العالمين لا يتقن إلا إذا قدمت له المقدمات وشدا صاحبه شيئاً من أكثر ما ينفع وقلما سمع بأن رجل أثر في إنهاض أمة أو خدم علماً أنفع نفعاً بذكر وكان ما تميز به وحده هو كل رأس ماله العلمي والعقلي حتى أن نفس علماء الدين في الإسلام الذين أثروا تأثيراً كبيراً كانوا مشاركين في علوم الدنيا مشاركة تامة والغزالي والماوردي والفخر الرازي وابن تيمية وابن حزم وابن القيم وأبو حاتم الرازي والجاحظ وغيرهم كثيرون لم يؤثروا في قومهم ولم يزالوا مؤثرين لا لأنهم سعوا في تنمية ملكات عقولهم بالعلوم الرياضية والتاريخية فعرفوا كيف يسلكون ولذلك ترى لكلامهم قبولاً لا تراه لغيرهم ممن لم يشاركوا مشاركتهم في العلوم الدنيوية.
وكذلك الحال فيمن عرفوا بالعلوم المدنية كنصير الدين الطوسي وابن رشد وابن سينا والفارابي وعبد اللطيف البغدادي وابن الهيثم والبتاني والبيروني ومئات غيرهم لم ينفعوا في علومهم التي تفردوا فيها إلا بعد أن عرفوا من علوم الدين ما حسنت معه سيرتهم وسريرتهم.