وإذا أمعنا النظر في تاريخ هذه الأمة نجدها لم تعهد الأخصائيين في العلوم المدنية إلا في أواخر القرن الثاني أو في منتصف الثالث على حين بدأت بالنقل وتعلم علوم الحضارة منذ القرن الأول للهجرة ولما عمت هذه العلوم وخصوصاً الفلسفية نشأ بحكم الطبع أناس متفردون ودام هذا التفرد على أشده إلى أواخر القرن السادس ثم أخذ يضعف بضعف طرق التعليم وزهد الحكومات في العلم إلا ما كان منه تحت ستار الآخرة تمويهاً على عقول السذج وفساد السياسة فساد العالم فكيف بالعلم وهو الذي لا تنفق سوقه إلا في أرض الراحة والطمأنينة ولا يقوى إلا بالبواعث والدواعي.
وكأن العقول في أهل هذه البلاد ضعفت بعد اشتغالها الطويل قروناً فأخلدت إلى الراحة طوعاً أو كرهاً في القرون الخمسة الأخيرة التي لم تبق منها إلا حثالة من فروع الدين واللغة فقط وقلَّ في كبار المشتغلين من أهلها بعقولهم من أصبح يدعى نتفة من علم فضلاً عن أخصائي. أو كأن ضعف أمة قوة أخرى كما قال بعضهم:
حياةُ بعض ممات بعضٍ ... حياةُ كلّ محالُ فرض
فقد كنا هنا كلما ضعفت عقولنا وزهدنا في ترقية مداركنا وانصرفنا إلى التافه الذي لا يؤبه له قويت الأمم الغربية بعلومها ومدارك أهلها وطفق العلم يعم أفرادها جيلاً بعد جيل حتى جاء القرن الثامن عشر الميلادي وقد كثر الأخصائيون فيهم وزادوا في القرن التاسع عشر أي زيادة وأتى هذا القرن العشرون وقد كاد يعم العلم قضهم وقضيضهم وذكورهم وإناثهم. ومن جمهور المتعلمين يخرج في العادة الأخصائيون وهم إما مسوقون بنابل من طبيعتهم إلى إتقان فن أو فنين والتبريز فيهما على الأقران أو أن أحدهم ينمي في نفسه الميل إلى فن ينفع الناس نفعاً حقيقياً. قال عبد الله بن مسلم بن قتيبة: من أراد أن يكون عالماً فليطلب فناً واحداً ومن أراد أن يكون أديباً فليتفنن في العلوم. وقال احد الحكماء: اقصد من أصناف العلوم ما هو أشهى لنفسك وأخف على قلبك فإن نفاذك فيه على حسب شهوتك له وسهولته عليك.
ما ظهر في الغرب أمثال نيوتن ولابلاس وكيتي وشيلر وهيكل وهيجل وفيختي وماكولي ولايبنز وسبينوزا وكانت وكونت وديكارت وشوبنهور وروسو وفولتير وديدر ودروين وهاكسلي ومئات غيرهم إلا بعد أن نظم التعليم عندهم تنظيماً حسناً وعم الإصلاح أصوله