مضت أيام وسعيد يجتهد فوق طاقته بحيث قدم فحصين عن دروس صفين في آن واحد حتى بلغ الصف المنتهي ليقرب وصوله إلى المدارس العالية وظل مثابراً على خطته حتى خرج الأول من المدرسة ولم يترك جائزة لأحد من رفقائه في الصف فأدهش المعلمين والتلاميذ وأمّل الجميع بنجاحه في المستقبل وبعد ما نال الشهادة عزم على السفر واطلع الباشا على قصده فساعده على ما يريد ولم يتيسر له أن يختلي بجميلة ولكنه ودعها قائلاً أؤمل أن أوفق إلى مطلوبي وذهب إلى الأستانة تحف به الآمال وتشيعه الأحلام.
حتى إذا بلغ دار السعادة أخذ يفكر في انتخاب مدرسة يتخرج فيها على النحو الذي يكون به في المستقبل جديراً بجميلة فلا تكبده ما لا يطيق من النفقات. فرأى أن دار المعلمين أحسن عائدة عليه لأن الأول في الصف فيها يقبض مشاهرةً ليرة عثمانية وكان يعتمد على نفسه بأنه سيحرز الأولية بيد أنه فكر بما سؤول إليه أمره في المستقبل وماذا سيكون من اشتغاله فلما أدرك أنه سيصير معلماً للنشء وقيماً على الأطفال امتنع عن الدخول إلى دار المعلمين ذلك لأن هذه الصناعة تعد قبيحة عند العامة وهو يود أن يصير في مقام يكسب به جاهاً يخوله الحق أن يخطب جميلة من أبيها ثم فكر في حقيقة تعليم النشء وتدريبهم فأدرك انه بعمله هذا يكون علمهم العلوم وأحسن تربيتهم وجعلهم رجالاً للأمة وقد يعلمهم المؤازرة والتضامن فيجعلهم جسماً واحداً وأمة واحدة كالبنيان المرصوص ويدربهم على الأعمال الشريفة التي تعود بالخير على وطنهم فيغنم بذلك أجراً جزيلاً وثناءً جميلاً. وربما أحرز منصباً في نظارة المعارف يجعله في أوج المعالي إذا ساعده الدهر وخدمه الحظ وكان مغروراً بحظه لما رأى من نفسه الغناء في الفوز بالأولية في الصف ومحبة الناس عامة. وبعد أن فكر ملياً في الأمر أزمع الدخول إلى هذه المدرسة فدخلها وأخذ يقضي أوقاته ويفني صحته في الدرس لينال ذلك الراتب. وفي غضون ذلك انتقل الباشا من دمشق برتبة أكبر إلى مكان بعيد فساقته الضرورة إلى الاكتفاء بهذا الراتب القليل.
وكان سعيد لما بلغ الأستانة نزل في خان من خانات شنبرلي طاش واستأجر أصغر حجرة