للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الحافظة والحفاظ]

أي نعمة ينالها المرء أعظم من أن تعي ذاكرته كل ما تريد وعيه وتدخره إلى ساعة حاجة للانتفاع به. الحافظة من العوامل المؤثرة في ترقية الأفراد والجماعات وبدونها يصعب الوصول إلى إدراك الحقائق وتمحيصها لانا إذا لم نستعن في كل مطلب من مطالب الحياة بتجارب من سبقونا ونحفظ المأثور عنهم لننسج على منواله كنا أشبه بمن يريد أن يبني له يوم بناء وظلت العلوم والصناعات والآداب في طفولتها الأولى تجري على نظام مضطرب إذ يكون كل امرىء وما يختار.

والذاكرة والحافظة حاسة يحفظ بها الذهن على صورة دائمة أموراً مضت وتأثرت وقعت فهي بذلك كما قال مونتين الفيلسوف (١٥٣٢ ـ ١٥٩٢) وعاء العلم وصوان الحكمة. وقال لارشفوكلد الكاتب (١٦١٥ ـ ١٦٨٠) جميع الناس يشكون من حافظتهم وما قط شكا أحد من عقله. وقال آخر: إن الذكاء بدون حافظة أشد بغربال لايكاد يمسك ما تضعه فيه. وقال أحدهم: الحافظة واسطة من وسائط الكمال وبدونها لا يستطيع امرؤ أن يقلد شيئاً وينسج على منواله. وقال لاكورنيل الشاعر: يجب لمن يعتمد الكذب أن يكون ذا ذاكرة جيدة. وهذا مثل قولهم إذا كنت كذوباً كم ذكوراً. وقال بيكته الأديب السويسري (١٧٩٩ـ ١٨٧٥): لقد كان للحافظة شأن مهم جداً عند الناس في العصور الأولى أكثر مما صار لها في القرون اللاحقة. كانت الحافظة قبل اختراع الكتابة هي التي تتولى خاصة نقل التقاليد الوطنية والدينية وعامة القوانين والعادات والشعر ولذلك كانت هذه الحاسة التي قلما نحفل الآن بأمرها عند قدماء الآريين مشابهة للفكر نفسه. اختلفت مذاهب الفلاسفة فيما إذا كانت الحافظة حاسة قائمة بذاتها أو فيما إذا كان لكل حاسة فينا ذاكرة معينة ومعظم الحكماء وعلما النفس على أن الحافظة حاسة مستقلة عن بقية حواس الإنسان ولا يكاد أحد يدرك كيف تعي الحافظة الأرقام والأعداد وتحفظ العبارات والمفردات وتحكم اللغات واللهجات وتردد الألحان والأصوات. ويقول علماء النفس أن الشروط النفسية اللازمة لجودة الذهن متوقفة على جودة تركيب أنسجة الدماغ وحسن تغذية هذه الأنسجة. والتعب والشيخوخة من العوامل المؤثرة في ضعف الحافظة لأنهما ملازمان لضعف تغذية هذه الأنسجة ولذلك قالوا درجة الحافظة لا تختلف بحسب الأشخاص بل تختلف في الشخص الواحد في أدوار مختلفة من حياته وإذا صرفنا النظر عن الآفات العضوية التي تضر بها فمن هناك أيضاً