يستطيع التاريخ الأدبي أن يبين حدود النشأة الحقيقية لكثير من اللغات الميتة والحية ولكنه لا يستطيع أو عَلَى الأقل لم يستطع إلى الآن أن يبين شيئاً من ذلك بالقياس إلى اللغة العربية التي ينطق بها من أهل الشرق الخلق الكثير.
ولا شك في أني قد خصصت جزءاً من هذه المحاضرة للإشارة الموجزة إلى تكلم الظلمات الكثيفة التي حجبت لغتنا الشريفة عما يشرف به التاريخ عَلَى الأشياء من بصيرة ثاقبة ونظر بعيد ولكنني لم أستطع أن أخصص جزءاً منها لإيراد الأعاجيب والمضحكات التي يوردها أكثر الخطباء في خطبهم لأني لا أطمع فيما يطمعون فيه من التصفيق الحاد والإعجاب الشديد فإليكم أتقدم بالمعذرة ومنكم ألتمس المغفرة وأظنكم لم تجتمعوا في هذا النادي لتضحكوا أو تصفقوا فإني لم أر بلداً أهله أحوج إلى قلة الضحك وكثرة البكاء من هذا البلد. . . ولولا ثقتي بأنكم تعلمون من الأمر ما أعلم وتشعرون بالواجب كما أشعر لقلت لكم مقالة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في بعض خطبه لو تعلموا ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً.
أجل إنا قد أسرفنا في الهزل والمجون وقصرنا في الجد والعمل وكان حقاً علينا لو أنصفنا أنفسنا أن نقتصد من الهزل ما ننفقه في الجد ومن الفراغ ما نستعين به عَلَى العمل قبل أن يعضل الداء ويمتنع الدواء ونقضي ضحايا التقصير واللهو الكثير وهنالك لا ينفعنا الندم ولا يعذرنا التاريخ.
قدم عهد اللغة العربية
نشأت لغتكم أيها السادة والإنسان طريف عهد بالوجود لم يبلغ أشده ولم يستكمل قوته بل كان طفلاً ناشئاً حديث السن ضيق الفكر صغير العقل ولست أقول هذا القول يدبيجاً للفظ أو مبالغة فيه وإنما هي الحقيقة الثابتة التي ليس فيها مجال لشك ولا جدال فإن هذه اللغة هي أول غصن نبت من لغة سام بن نوح عليهما السلام وقد قطعت مع الإنسان هذا القدر من الزمان وعمرت معه منذ كان طفلاً إلى أن صار كهلاً وها أنتم أولاء تسمعونها مني فتشعرون بأنها لا تزال حية قوية تثبت بأجلى بيان أنها أطول اللغات عمراً وأشدها أسراً وأعظماه قوة عَلَى الخطوب وصبراً عَلَى الأحداث.