فكم ماتت اللغات وهي حية وفنيت اللهجات وهي باقية وكم حاربها الدهر فحربته وغالبها فغلبته ورامها بالسوء فامتنعت عليه.
وقد أدركت هذه اللغة نضرة اللغات وذبولها وإشراقها وأفولها وشهدت مصارع أخوتها الساميات وهن يتفانين سراعاً ويتهاوين تباعاً حتى عمهن الموت وشملهن الفناء هنالك عاشت فذة فريدة تتمثل قول شاعر أبناءها المجيدين
ذهب الذين أحبهم ... وبقيت مثل السيوف فردا
أجل وقد أدركت هذه اللغة هوي الأمم الهاوية ورقي الشعوب الراقية فشهدت عظمة بابل وآشور ومصر وأشرفت عَلَى نهضة إسرائيل ورأت مجد اليونان والرومان والفرس والهند وكانت خليقة بعد هذا كله أن تروي لنا التاريخ العام لمثل رواية وتحدثنا عنه اصدق حديث لولا جهل السالفين وضعف الخالفين من أبنائها فما أقدر هذه اللغة عَلَى الحياة وما أصبرها عَلَى الخطوب.
صعوبة البحث التاريخي عن نشأة اللغة العربية
ذلكم أيها السادة أول عهد اللغة بالحياة ولكن في أي قرن ابتدأ هذا العهد. .؟ وكيف كان ابتداؤه. .؟ وما هي الأصول الحقيقية للغة السامية التي اقتطعت منها هذه اللغة وكيف كان اقتطاعها.؟ هذا ما لم يعرفه التاريخ إلى الآن وقبل أن أُشير كما وعدت عَلَى أسباب ذلك يجب عَليَ أن أبطل مذهباً يلهج به بعض الكتاب الذين كثير عليهم العلم حتى ضاقت به صدورهم فأخذوا يقذفونه في الصحف من غير حساب ويبيعونه عَلَى الناس من غير ثمن وينتحلون به لأنفسم ألقاب العلماء والمؤلفين. .؟!
زعموا أن اللغة العربية نشأت كما تنشأ لغة الطفل فكانت في أول أمرها أصواتاً أحادية المقطع لا يزيد اللفظ منها عَلَى حرف متحرك كباء الجر ولامه وكاف التشبيه وأحرف القسم وهمزة الاستفهام.
ثم تركت هذه الألفاظ بتركب معانيها ومرونة الألسنة عَلَى النطق والحركة فبلغت مقطعين وثلاثة إلى أن استقرت في نصابها المعروف فلم تنقص في الاسم والفعل عن ثلاثة أحرف أصول لم تزد في الأول عن خمسة وفي الثاني عن أربعة إلا بحروف غير لازمة وهي الزوائد عَلَى أن هذه الحروف لم تستطع أن تبلغ بالفعل أكثر من ستة وبالاسم أكثر من