الشعر لغة الشعور وقد أخرج عن معناه الأصلي فأصبح يفهم منه الآن الكلام الموزون المقفى الذي يتوخى صاحبه إيداع خياله وشعوره فيه بصورة تستفز العواطف وتأخذ بمجامع القلوب وابتذله الأكثرون فأضحى حرفة يتغنى بها أحدهم ويعمد إلى اكتسابها على طريقة علمية كأن يقرأ العروض والقوافي ثم يقبض على اليراع ويحاول صف كلام ملفق ليس من الشهر في شيء طمعاً في أن يقال عنه إنه شاعر وما أحراه أن يدعى ضفافاً فهو أشبه بمنضد الحروف في المطابع إلا أن هذا يصف الحروف بقياس معلوم وطريقة مصطلح عليها وذلك يصف الكلمات حسب تفاعيل الخليل.
الشعر شعور لا كلام والشاعر صاحب هذا الشعور يشعر بما لا يشعر به غيره ويسمع ما لا يسمعه غيره فعينه تخترق السحب وتسرح في فضاء العوالم وتأتي إليه بما لم يخطر على بال، وخاطره يفترع أبكار المعاني التي لم يسبقه إليها أحد، ووجدانه يختلف عن وجدان سائر الناس، والنظرة التي ينظر بها إلى العمران ليست كنظرة الناس. فكل نظم خالٍ من الخيال ليس حقيقاً أن يدعى شعراً ولا يمكن أن يعيش بعد صاحبه وربما مات قبله. وكم من شعر نُظم وكم من شاعر نظم فوارتهما أيدي الزمان في مدافن النسيان.
فالشعر لا يعيش إلا إذا استوفى شرطين: أولهما أن يكون فيه شعور فائق وخيال بالغ، وثانيهما أن يكون مسبوكاً في قالب متين المبنى موضح المعنى فالشرط الأول لا يتنازع فيه أحد ضرورة أنه من مقتضيات الشعر وشرائطه الكبرى. نعم إن الشعر الذي لا شعور فيه ليس شعراً كما أن العلم الذي ليس فيه العلم الصحيح لا يعد علماً. وما أحسن لفظة شعر تفصح عن المراد من الشعر وهي لفظة حسن وضعها لما يقصد منها تفضل لفظة بوتري الأعجمية لأن هذه تعني الفعل وليس فيها ما يستشف منه المعنى المرغوب والشيء المقصود. أما الشرط الثاني فلأن اللغة واسطة لنقل خيال الشاعر إلى الناس. وأحرى بهذه الواسطة أن تكون ممحصة من شوائب التعقيد ومعائب الالتباس. وكلما كانت اللغة صحيحة كان فهم الشعر سهلاً. فهي كالوعاء تودع فيها سوامي الفكر وسوانح الفطن. وإذا كان الوعاء ناقصاً في شيء يوجب تمامه كان المودَع فيه خليقاً أن تذهب بحسنه عوامل الأيام. وكم من نظم طوته صحف الدهر لغير علة سوى أنه أنشئ بعبارة تافهة تخالف القياس المألوف.